العريس الملعون

550902_3908875331207_1559065840_33100310_1924720022_n

قال العم كمال وهو ينظر إلي بريبة:‏

-هذه المرة، ستسمع أيها الوغد جيداً، ولن أغفل عنك أبداً، لأنني إذا ما فعلت، فإنك ستجد الوقت الكافي لتحشر في حكاياتي تلك البغال والشياطين وما أشبه ذلك.. لا تعترض.. إنني أعلم العلم كله أنك المستمع الوحيد هذه المرة، فأمي وأمك وأبوك وعمتك رحلوا عن هذا العالم.‏

كنت أجلس مع العم كمال في غرفة بالطابق العلوي من بيته. لم يعد العم كمال ذلك الشاب الوسيم الذي تهز ضحكته جدران بيتنا العتيق.. هو الآن، يبدو غريباً علي بشعره الفضي وتجاعيد وجهه. لقد ودع شبابه منذ زمن بعيد، مثلما ودعت طفولتي، لتقذفني الحياة في أشد الدروب وعورة. ها نحن نلتقي بعد كل هذه السنين، فما الذي سيصنعه العم كمال لكي يعيدنا نحن الاثنين إلى بيتنا العتيق في مدينتنا الجنوبية؟‏

يبدو أن الشيخوخة لم تهدم روح العم الصلبة، ففي هذا الوقت الذي ليس شتاء، قرر العم كمال أن‏

يعيدني -عبر حكاياته- إلى الأزمنة التي تصرمت على دروب مدينتنا الصغيرة.‏

قال العم كمال بصوت الشيخ الرخيم:‏

-سأقص عليك حكايات أبطالها من عائلتك أيها الوغد.‏

-ماذا؟‏

-لا تعترض.. حسن.. كان جدك لأمك رجلاً عجيباً.. كنت صغيراً لكي تتذكره جيداً. كان قوي الشكيمة ولا مباليا ومرحاً إلى حد اللعنة... كان هو وأولاده وبناته وأحفاده يشكلون قبيلة غريبة، هي خليط من قديسين وقطاع طرق.. كم لديك من الأخوال؟... اثنا عشر؟‏

-ثمانية عشر.‏

-وخالاتك؟.. إنني أذكر عددهن جيداً... كن خمس عشرة.‏

-بل إحدى عشرة.‏

وانفجر العم كمال:‏

-هل تكذبني؟ ... كن خمس عشرة.‏

-وكيف تأتيني بأربع خالات لا وجود لهن؟‏

-حسن.. إحدى عشرة إحدى عشرة.‏

في هذه اللحظة، تمنيت أن تكون أمي موجودة، أو في الأقل أبي لكي يوصم حكاياته بالأكاذيب، وبأن هذا العم أكبر كذاب في طول البلاد وعرضها. شعرت أن حكايته هذه، وكذلك حكاياته القادمة ستكون سلسلة من الفضائح التي ستلتصق بعائلة أمي. حاولت الفرار، لكنه قطع الطريق علي.. قال:‏

-لقد جعلت من عمومتك أضحوكة بحكاياتي التي تلاعبت بها. الآن، سأقص عليك حكايات عن أخوالك، حكايات تصدر عن ضمير حي وليس عن ضمير ميت كضميرك أيها الوغد.‏

يبدو أننا وصلنا إلى حافة حرب الضمائر..‏

-بماذا تهمهم؟‏

-بلا شيء يا عم.‏

نظر العم كمال في عيني مباشرة، ثم قال:‏

-إنك لتعرف أين يقع بستان جدك.. إنه في الجانب الآخر من نهر دجلة. في ذلك الوقت، لم تكن هناك بيوت في ذلك الجانب.. بساتين على امتداد الضفة. أما في الجانب الآخر فقد كانت المدينة. وقد قرر جدك القدوم إلى المدينة تاركاً البستان لأولاده الذين سرعان ما تبعوه الواحد بعد الآخر، ليحتلوا زقاقاً بأكمله في محلة السرية. في هذا الزقاق الذي هو زقاقنا كما تعرف توالدوا مع زوجاتهم بسرعة عجيبة..‏

-يا عم..‏

-هذه هي الحقيقة، ولا تقاطعني مرة أخرى.‏

لكنني خالفت أمره متسائلاً:‏

-أهذه الأحداث التي ستقصها وقعت وأنا صغير جداً؟‏

فأجاب بتأكيد المنتصر:‏

-نعم.‏

-إذن، لندع بنات عمي وأمهن ليشاركنني سماع هذه الحكاية.‏

-أترك هذه اللعبة أيها الوغد، فهذه الحكاية لا يجوز أن تسمعها النساء، وخاصة من عائلتي.‏

إذن، فالعم كمال قرر هذه الليلة أن يبطش بأخوالي، وكان علي أن أطلب النجدة من زوجة عمي وبناتها، إلا أن العم دخل في حكايته قائلاً:‏

-ولم يبق في ذلك البستان الكبير سوى خالك الأكبر.. إنه حسن من غير شك.‏

-كلا.. إنه نجم.‏

-نعم.. نعم إنه نجم عليه اللعنة أربع مرات.‏

-إنك تشتم خالي يا عم.‏

وانفجر العم كمال:‏

-إذا لم تغلق فمك فسوف أشتمه خمس مرات.‏

في هذه اللحظة، اكتشفت أن الطفولة تتسامح كثيراً مع الشتائم واللعنات، لكن أين الطريق الذي يقودني إلى طفولتي؟... وجاءني صوت العم كمال رخيماً هادئاً:‏

-كان خالك الأكبر ذاك مثل جدك قوي الشكيمة، إلا أنه كان جاداً وغير مرح، وهكذا سيطر على أبنائه، على الرغم من أنهم كانوا صغاراً حين وقعت أحداث هذه الحكاية. كان يصلي طوال النهار.. وفي يوم الجمعة يعبر النهر إلى المدينة، ليصلي في جامع النجارين.. كان هذا يثير جدك.. في البداية كان جدك يعلق:‏

-أصحيح أن نجم مؤمن ومتدين؟... إنني لأعجب كيف أن الرب يسمح لهذا الكلب أن يصلي في بيته؟‏

لم يكن جدك هو الوحيد الذي أدارت الحيرة رأسه فترة طويلة، إنما جدتك أيضاً، وكذلك أخوالك الكبار... لماذا؟.. لأنه كان لصاً كبيراً في شبابه... سرق جميع البساتين القريبة والبعيدة من بستان أبيه.. هل يمكن لك أن تتخيل أن أحداً بوسعه أن يسرق سفينة بأشرعتها؟.. لقد فعل ذلك خالك نجم وبجدارة جعلت الجميع، في ذلك الوقت، يرتجفون فزعاً خوفاً من أن يسرق بيوتهم بأساساتها، إذن، لماذا لا يندهش الآخرون حين يرونه يعبر النهر، ويدرج في شوارع المدينة، من أجل أن يصلي في جامع النجارين وراء أمام الجامع؟‏

كنت على وشك الصراخ حين أشار العم كمال أن أهدأ... قال:‏

-ومرت الأيام سريعاً وراء بعضها، وخالك نجم مواظب على الصلاة... وتحولت الأيام إلى شهور، والشهور إلى سنين، وخالك لا يكل عن أداء الصلاة... إذن، من بمقدوره أن لا يصدق أن الرب العظيم قد هدى هذا السارق الكبير إلى طريق الصلاح؟...‏

شعرت أن أنفاسي بدأت تنتظم، كما شعرت بالعرفان للعم كمال. وواصل العم كمال:‏

-بيد أن الأحداث جرت في اتجاهات غريبة. اتجاهات كنت أنت تسميها القدر، أليس كذلك؟‏

-نعم.‏

اضطربت أنفاسي من جديد.. لم يتأخر العم كمال في وصل حديثه، قال:‏

-تلك الأحداث لم تسمح للص أن يستمر قديساً، بل جرت لكي تقلب كل شيء من أجل أن تظهر الحقيقة.‏

عاد العم كمال إلى عادته القديمة في سرد حكاياته. ها هو يتوقف قليلاً ليوحي إليّ أنه يسترجع الأحداث. وعاد إلى الحديث:‏

-كيف استطاع جدك أن يجعل من عائلته قبيلة؟.. هيا اسألني... وسألته على مضض:‏

-كيف؟‏

-لقد زوج أولاده وبناته في وقت مبكر... وبدأ ينتظر أحفاده... وحين وصل أحفاده إلى سن الثانية عشرة سنة أو أكثر بقليل، قام بتزويج البنات للأولاد... لقد انهمك في عقد شبكة معقدة من الزيجات بين أبناء العم وبنات العم، وبين بنات العمات وأبناء الأخوال، وبين أبناء وبنات الخالات.. هل قلت شبكة معقدة؟.. كلا.. كانت شبكة غريبة محيرة، إلى درجة لم يعد يعرف فيها وَمَنْ ابن عم مَنْ، وابن خال مَنْ.. وكادت تقع زيجات غير شرعية جراء هذا التشابك.‏

-يا عم..‏

ويؤكد العم كمال:‏

-هذا ما حدث، وعليك أن تستمع.. غير أن الأمور لا تسير على الدوام بمنوال غاية في البساطة.‏

توقف العم كمال ليسألني:‏

-زهراو ابن أي خال من أخوالك؟‏

-أبن خالي صالح.‏

-وزوجته نعيمة؟‏

-ابنة خالي رحيم.‏

وانطلق العم كمال مواصلاً سرد حكايته:‏

-هذان الوغدان كانا وراء تحطيم أو كشف حقيقة خالك نجم..‏

-كيف؟‏

-كان زهراو في طفولته مشاكساً، وحين أصبح صبياً أظهر ولعاً غريباً في صيد الطيور، وخاصة البلابل، وهكذا وجد في بستان جده مأواه الذي رفض من أجله بيت أبويه، ولقد أحسن خالك نجم استغلاله في العمل في البستان. وكانت نعيمة -التي هي في مثل سنه- كثيراً ما تذهب مع أمها إلى البستان.. هما أولاد عم وأطفال.. وتعديا الثانية عشرة من العمر، ومازالا ينظران إلى بعضيهما كطفلين أو أخوين، لكن عيني جدك لا تخطئان أبداً، فسال بحنق:‏

-ابن من هذا الجرو؟‏

وأجابت جدتك:‏

-ابن ابنك صالح.‏

وعاد الجد يسأل:‏

-وابنة من هذه الكلبة؟‏

-ابنة ابنك رحيم.‏

وهدر جدك بقراره:‏

إذن، ليتزوج هذا الجرو من هذه الكلبة.‏

وانطلقت الزغاريد.. حاول زهراو الفرار إلا أن جدك طرحه أرضاً:‏

-أيها الجرو، عليك أن تتزوج لكي تعرف دفء المرأة مبكراً.. ماذا؟.. أتريد أن تبقى بلا زواج لتزيد لي عدد السفلة في عائلتي؟.‏

وبسرعة زفت نعيمة الصغيرة إلى زهراو الصغير وسط زغاريد وأفراح الكبار والصغار. حفلة الزواج تلك كانت حديث المدينة لسنوات طويلة. ففيها وقع المحذور وتكشفت الحقائق. في تلك الحفلة اجتمع أفراد عائلة جدك.. أخوالك جميعاً، وخالاتك أيضاً. كانت باحة البيت تصدح بالأغاني المليئة بأحزان مزارع الرز ومستنقعات الملح. أنت تذكر بيت جدك جيداً.. كان لغرفة الاستقبال بابان، الأول يطل على باحة البيت التي تجتمع فيها المحتفلون، والباب الثاني يطل على مدخل البيت، حيث يدلف ويخرج منه الضيوف. في هذه الغرفة تجمع أصدقاء العائلة، وكانوا جميعهم من السفلة كما يقول جدك...‏

-من السفلة؟‏

-نعم، لأنهم شربوا العرق في تلك الحفلة، وإذن، يجب أن يبتعدوا عن المحتفلين الآخرين، وهكذا أغلقوا عليهم الباب المطل على الباحة. كان تقليد الزواج في ذلك الوقت أن يدخل زهراو على نعيمة، ولا يخرج إلا بعد أن يمتلكها، ودم العروس يجب أن يراه أفراد العائلة، وأي أفراد عائلة كانوا أخوالك؟.. إنهم قطاع طرق حقيقيون..‏

-إنك تشتمني يا عم.‏

-لتسكت أيها الوغد.. كان المحتفلون ينتظرون دخول زهراو على نعيمة... ومن يكون أولئك المحتفلون؟... معظمهم كان من أخوالك وأولاد أخوالك وخالاتك عليهم اللعنة أربع مرات.. فجأة هدر جدك:‏

- آتوني بذلك الجرو.‏

وكان الجرو جالساً وهو يرتجف من الخوف بين أبيه وعمه والد زوجته نعيمة. وسحبوه إلى حيث جده الذي قال له:‏

-ستدخل الآن على تلك الكلبة.. عليك أن تفجر دماؤها.‏

ودفعه من ظهره بقوة إلى داخل الغرفة.. قيل إن نعيمة الصغيرة حين رأته تحولت إلى نمرة حقيقية، إذ عرفت ماذا يريد منها، وخرج زهراو والدماء تسيل منه هو... عندئذ ندد به أبوه وأعمامه، حتى والد زوجته، وعاد جدك يهدر من جديد، سائلاً أخوالك:‏

-اهذا حفيدي ومن صلبي؟... لقد فجرت دماء جدته بأسرع مما يستطيع أن يفعله ثور حقيقي.‏

قيل أن جدتك أغمي عليها.. لكن أحداً لم يعرها اهتماماً، بل أحاط أخوالك بزهراو الذي كان يرتعش بينهم. شجعوه وعلموه كيف يلحق الهزيمة بنعيمة، ثم أعادوه إلى الغرفة. هذه المرة، شد زهراو الصغير عضلاته وطرح نعيمة الصغيرة على السرير... لم يبق أمام نعيمة التي شاركت زهراو طفولته سوى الدموع، عندئذ سقط زهراو على الجانب الآخر من السرير، مشاركاً نعيمة في بكائها. ثم أخذا ينتحيان بصوت عال. وخرج زهراو إلى المحتفلين بدموعه المدرارة. بهت الجد وبهت أخوالك، لكن جدك معروف بقوة شكيمته، فسأل بغضب:‏

-أي من أولادي يشرب العرق مع أولئك السفلة في تلك الغرفة؟‏

-صبحي.‏

-آتوني بذلك السافل.‏

وخرج صبحي محاولاً ألا يترنح أمام جدك. شرحوا له كل شيء، وفهم هو كل شيء، عندئذ قال:‏

-إنه صغير ويخجل من فعل ذلك، ولكن لو سقيته كأساً واحداً من العرق فإن خجله سيختفي، وعندئذ سيفجر دماؤها ودماء اثنتي عشرة فتاة مثلها لو وجدن.‏

واحتج جدك:‏

-هذا الجرو الصغير يشرب العرق؟‏

-كأساً واحدة من أجل تفجير الدماء.‏

وهدر الجد:‏

- ياللعار... يبدو أنني سأفتح خمارة لأحفادي القادمين لكي يفجروا دماء زوجاتهم.. خذه وشربه ذلك الطاعون، لكنني سأجلده غداً.‏

ودخل زهراو في حومة السكارى.. سقاه خالك صبحي كأساً مخففة، وحين أفرغها طلب ثانية.. وسقاه فطلب ثالثة.. بحث خالك صبحي عن عرق في القناني فلم يجد قطرة واحدة، عندئذ همس زهراو في أذنه، فالتمعت عينا خالك صبحي الذي أسر ذلك لرفاقه السكرى، فانسحبوا واحد وراء الآخر من الباب المطل على المدخل خلسة، مستصحبين معهم العريس. كانت الحفلة قد بلغت أوجها، وشعر جدك أن الأمر طال أكثر مما ينبغي، فأمر بأن يجلبوا له ذلك الجرو.. وكانت المفاجأة التي تحولت إلى فضيحة... تساءل أكثر من خال من أخوالك:‏

-هل سرق السكارى العريس؟‏

وأجاب أكثر من خال من أخوالك:‏

-لكن عمه صبحي كان معه.‏

في تلك الليلة، تحولت الحفلة إلى مصيبة وشتائم وسباب ومشاجرات.. انقلب كل شيء في بيت جدك.. هرع رهط من أخوالك للبحث عن العريس في مراكز الشرطة، وهرع رهط آخر للبحث عنه في المستشفيات... في الصباح تجمع أخوالك في بيت جدك ليقولوا بين يديه:‏

-لا وجود للعريس في مراكز الشرطة ولا في المستشفيات.‏

وسألهم جدك وهو مكتئب:‏

-هل بحثتم في البستان؟‏

وفي البستان وجدوا صبحي والعريس وجميع سكارى الأمس ممدين وسط زجاجات عرق كثيرة جداً، استخرجت حديثاً من أرض البستان، حيث كانت مدفونة في أماكن يعرفها زهراو. فيما بعد عرف الجميع أن خالك الأكبر نجم كان أكبر مستهلك للعرق في المدينة.‏

لا أعرف إن كان الدم قد غاض في وجهي أم لا... لكن العم كمال قال:‏

-لن أدعك تختتم هذه الحكاية بتلك الكلمتين: "من يدري" كما فعلت سابقاً بحكاياتي، إنما سأختمها بكلام جدك الذي خاطب خالك الأكبر:‏

-الرب وأنا كنا نعلم أنك أكبر كلب في هذه المدينة، لكن أحداً لم يشأ أن يصدقنا نحن الاثنين.‏

 

  • بقلم: محمد شاكر السبع

إرسال تعليق

أحدث أقدم