كيف يمكن للمرء أن يرقب حورية تجعل الحجر يرتعش ولا يشعر بتصدع في جسده وبرغبة عارمة في بكاء لا حد له؟
كانت تلك المرأة حورية القسم الداخلي الذي نسكن فيه نحن طلبة ماوراء البحار كما يحلو لبني جنسها أن يطلقوا علينا؟
أي عذاب مبهج كان يخض القلب ونحن نرقبها تتهادى نبعاً يمور بنور عذب آسر؟
أقسم أن تلك المرأة قد اختصرت جمال نساء الأرض.
ـ هل أتحدث عن قامتها الفارعة الشبيهة بشجرة باسقة مثقلة بالثمر الناضج؟ أم عن السحر الذي يهمي من عينيها ويجعلنا مسحورين؟
كان بهاء الخضرة في العينين يشعل الحرائق أو الروح ويبعث جنون الأعماق الفواحة بصراخ حيوانات بدائية تفترس أجسادنا.
أطلقنا عليها لقب أميرة النساء. في الواقع لم نكن قد شاهدنا أميرة من قبل ـ لكن حلم المرء العثور على فاتنة، ماكان ليصل إلى أبعد من قدمي أميرتنا.
إن لساني لينعقد وأنا أبصر دفق النور الصافي في وجهها الرقيق الغض. وإن روحي لتتقد حين ألتهم جسدها الوفير الذي لم تكن الملابس لتخفي تكوراته وانثناءاته وامتلاءه الشهي.
كنا جميعاً نعيش هذا الجمال الطاغي وعلى استعداد للانحناء عن طيبة خاطر يبن ذراعيها اللدنتين ـ لا بل ما كنا لنتردد في الانحناء أمام ساقيها الرخاميتين الشبيهتين بمرآتين صقيلتين تشعان أنوثة.
من نوافذ غرفتنا العالية المطلة على فناء القسم الداخلي. بدأنا نرصد امرأة تفيض على البشر والأشياء فتفجر الكائنات ببهاء قدسي. وتغرق البشر الفانين من أمثالنا في موج كثيف لا قرار له. موج حار وشائك ولذيذ.
آمنت بأن الأرض تزهو تحت قدميها. وأن نجوم السماء تسرق الضوء من بريقها المتدفق. وكان أصدقائي يعيشون ليلهم ونهارهم مسكونين بالحديث عن أميرة النساء هذه، ومع أنني فكرت بأن نفسي قد أضفت عليها أجمل الصفات وأنها ربما تكون مثالاً لجمال في داخلي هو مثال وسعيٌ نحو المطلق، إلا أن فكرتي كانت تذوي أمام دهشة الأصدقاء الذين لم يدخروا جهداً للإفصاح عن ولههم بهذه الأنثى التي لم تكن لتنتسب إلى عالمنا القاسي، وإذا حاولت أن أقيم موازنة بين انبهاري بها وبين تسبيحهم بآلاء حضورها الذي يكتسح المرء ويلقي به في يم عميق.
فسأكون متزناً في حكمي.
قلت لنفسي: لا ملاذ اليوم يعصمني من هذا البلاء.
وإذا كنت أبصرها تدخل الفناء الرحب،كنت أشعر بحرقة وغصة في الحلق،ولعل مرد إحساسي بالانكسار النفسي يعود إلى أنها كانت تأتي في بعض الأمسيات الندية برائحة الثلج الناعم مع رجل نحيل الجسد، أنيق الملابس اعتاد أن يوصلها إلى القسم الداخلي، واعتادت أن تترك جسدها الشبيه بجسد نمرة رشيقة بين ذراعيه وأن تدس رأسها الصغير في أحضانه.
بدأنا أراقبها كل مساء.
بدأن نرقبها من نوافذنا المشرفة على فناء القسم الداخلي.
ورغم أننا أدركنا بأنها ليست لنا وأن الطريق إليها ليست سالكة، فقد أدركنا أيضاً أنها لست مستحيلاً.
كنا ننتظر الفرصة، لكن الفرصة لم تكن لتأتي بسهولة، فالرجل يرافقها أبداً ويقف سداً منيعاً في طريقنا، ومع هذا فإن جذور الأمل ظلت متوهجة، وبقينا مفعمين بلذة المراقبة والتطلع إليها كمن يتطلع إلى قدر لا فكاك منه.
ذات مساء اكتشفنا أمراً جديداً، ذات مساء يطوق ضبابه أشجار الحديقة الغافية.
جوار القسم الداخلي وتنشر أضواء الشارع على جانبي الطريق منه التماعات كامدة لها رائحة الرماد، رأيناها تعود وحيدة دون رجلها، بدت خطواتها رتيبة متعبة تشي بكائن متهدم، لكننا شعرنا بأن الراحة قد غمرتنا إن لم أقل أسكرتنا.
إذن هاهي ذي وحيدة عارية من الرجل الذي تحب.
وجدنا أنفسنا أمام فرصة التقرب من المرأة التي سرقت النوم من عيوننا، ووجدنا أنفسنا أمام تحليل واحد لا يقبل النقض، فلابد أن غراب البين قد صرخ بينهما ناشراً الفراق. توحدنا في عين واحدة تتطلع كل مساء إلى المرأة التي نحب.
أيقنا بتوالي المساءات الطويلة الكئيبة أن الرجل قد هجر المرأة، فالمرأة لم تعد تمشي بحيوية كالسابق، ذلك أن أقدامها قد صارت ثقيلة توحي بوحدة قاتلة.
سأل أحدنا: من يمتلك القدرة على الدخول إلى الجنة؟
همس آخر: الفوز بالنعيم يتطلب مهارة وأعمالاً صالحة.
واختلطت الأصوات والضحكات، أما أنا فقد لذت بالصمت وآليت على نفسي أن أفوض أمري إلى جحيم هذه المرأة.
في مساء اليوم التالي كنت أقف في مدخل الفناء منتظراً إياها، وحين جاءت رائقة كحلم مخضل بالشذى شعرت بقلبي يطير من صدري.
ألقيت التحية.
فابتسمت ابتسامة لا أعرف كيف لم تلقني أرضاً.
قلت لها: أسكن في القسم هنا، وسأكون مسروراً لو تناولت معي قدح شاي عراقي.
ضحكت بألفة وقالت: يسعدني ذلك، فأنا لم أجرب هذا النوع من الشاي.
اندفعت قائلاً: ستحبينه بالتأكيد.
ضحكت للمرة الثالثة فأومأت بيدي واقتدتها إلى غرفتي.
في الطريق، كنت أرى عيون الأصدقاء، تبرق من وراء النوافذ، بريق عيون قطط مشاكسة.
حين نضت المعطف عن جسدها، امتلأ الجو بعبق رائحة عطر نفاذ يمتزج برائحة أنوثة غريبة.
أمضينا وقت انتظار الشاي في الحديث عن الصقيع الذي هاجم البلاد هذا العام وبث الشجن بين الناس.
قالت: صحيح أنه يشعرنا بالوحدة ولكنه جميل.
قلت: أنتم تحبونه لأنه جزء من طبيعة بلادكم، أما نحن ففي بلادنا لا نراه إلا في الشمال وفي فصل الشتاء وبعض الربيع.
احتست بتلذذ الشاي الذي حرصت أن أعده لها خفيفاً بينما كنت أدير أسطوانة لفيروز تتحدث عن الحب في الصيف والشتاء.
أعترف بأني كنت مأخوذاً وأن السحر قد ركبني فأسلمت كياني إليه.. إذن ها أنذا مع المرأة التي لا تنتسب إلى عالمنا أتجاذب الحديث معها وأرمق وجهها الصافي كالفضة مسترقاً النظر إلى هذا البذخ الجسدي الذي لا يترك للإنسان فرصة استرداد النفس حين ينظر إليه.
قالت متسائلة: مابك؟ هل تشكو من شيء؟
قلت: كلا.. أنت جميلة، جميلة، إلى درجة الجنون.
سألت بغرابة: الجنون؟
قلت: أعني أنت ساحرة.
ضحكت وقالت بدهشة ساحرة.
قلت: أجل، أحس أنك من عالم آخر.
قالت: ماذا تقصد؟
قلت: صعب جداً أن أجعل الكلمات تفصح عن مكنون شعوري.
سألت: أي شعور؟
اقتربت منها مسلوب الإرادة، أمسكت بوجهها فأسلمته لي.
تشجعت وداعبت خصلات شعرها المسترسل.. كان وجهها بين يدي غضاً رقيقاً مرهفاً، وكانت فتحة صدرها تكشف عن جزء من ناهديها المتماسكين، بدت منذهلة ولم تقاوم فاندفعت لأقبلها بضراوة.
دفعتني بألفة وقالت: يالك من شيطان لطيف!..
وقفت مبهوراً أرتعش بين يديها والجوع قد حولني إلى طفل ضال.
أبعدتني وقالت بحزم: لا. أرجوك هذا ليس جميلاً.
قلت بضراعة: أنا وحيد وحزين، وأنت وحيدة، لنكن لبعضنا.
قالت: لي صديق ولست وحيدة.
قلت واليأس يرج صوتي: كنت أعتقد أن صديقك قد هجرك.
ضحكت وقالت: أوه، لا تكن سيئاً وتفكر هكذا، إنه في سفر.
وسيعود الأسبوع المقبل، نحن نحب بعضنا.
وجدتني أتهالك على الكرسي. فاقتربت مني وقالت بصوت رهيف:
ـ لابأس، ستجد الكثير من النساء في هذا العالم.
لم أستطع أن أتكلم فقالت: كنت لطيفاً معي، ولا أريد أن أجلب المتاعب لك.
لم أستطع إلا النظر إليها مبهوتاً، ولم تستطع الانتظار فتناولت معطفها، وقالت: وداعاً، وشكراً على الشاي اللذيذ.
رددت بآلية: وداعاً.
وإذ شعرت بالاختناق اتجهت صوب النافذة وفتحتها لأعبّ حفنة هواء فارتطمت نظراتي بوجوه أصدقائي الذين كانوا داخل فناء القسم الداخلي يلوحون بأيديهم متسائلين.
حاولت أن أرفع يدي لأرسم لهم علامة النصر فاستعصت علي.
وفجأة أغلقت النافذة بعنف وعدت لأطفئ النور في غرفتي وأسترخي على السرير لأحلم بامرأة منحتني قبلة وذوت كالندى بين أصابعي.وتذكرتُ. وطالما تمنيت. لو أنني كنتُ سألتها عن اسمها.. اسمها فقط..!!
****
- بقلم: د. نجمان ياسين