يوم سقطت التُفّاحةُ على مستلق تحت شجرتها، لما كانت الأبواب تفتّحت له إن كان قضمها وخلد للنوم راجعا، لكنها لم يقضمها فأعاد التاريخ يومه بعودة التفاح لعبدالفتّاح جندلي .. لا لبطنه بمدينة حمّص السوريّة، وإنما لعقل إبنه (ستيف جوبز) بالولايات المتحدة الأمريكية .. فلم يخلُد العبقري الرقمي العربي الإمريكي الجديد للنوم ببطن مملوء، وإنما ظلّ بجوار تفاحته المقضومة قضمة واحدة بعقل مملؤء ما بين 1953-2011.
فوجئت ولم أتوقع وكدت لا أصدق ان ساحر "أبّل مكنتوش" الأمريكي وعملاق الإلكترونيات العالمي، هو لم يكن ذلك الرجل الذي غيّر ملامح العالم فحسب، بل كان أيضا الإبن الشرعي لمواطن عربي سوري من حلب.! وقد مات في أمريكا بأشرس أنواع السرطان في يوم كانت أنجبت فيه سيدة يمنية (توكّل فرمان) أعلى جائزة السلام الدولية على أرض متعطّشة للسلام، فاليمن بشطريها الجنوبي والشمالي، وبكل شبر من اراضيها من شبوة الى حُديدة تبحث وتستغيث للسلام، لكنها سنة الحياة، أحدٌ يموت وآخرٌ يولد.
(ستيف جوبز) الذي مات في ساعة متأخرة مساء الأربعاء، من 5 أكتوبر، أكان قادرا على ان يجلب لنفسه ساعة إضافية من ستة وخمسين سنة عاشها تحت الأضواء؟ استطاع فيها ان يخترع أحد أشهر أقطاب الأعمال في الولايات المتحدة وأقواها على الإطلاق في العالم، واستطاع جوبز ان يؤسس شركة أبّل ماكنتوش، ويبقى مديرها التنفيذى والرئيس التنفيذى لشركة بيكسار، ثم استطاع ان ينتقل إلى مجلس إدارة شركة والت ديزنى بصفقة استحواذ انتقلت بموجبها إلى ملكية ديزنى .. نعم استطاع كل هذا واكثر، ولم يستطع ان يؤجل استقالته عن منصبه فى 24 أغسطس 2011، ثم لم يستطع بكل امكانياته الفنية والمالية والإعلامية، أن يؤجل تسليم روحه للقابض دقيقة واحد.!
لا غرابة مما يقال عن ستيف جوبز كان يعلم منذ أسابيع أن حياته ستنتهي قريباً، إنما الغريب انه كيف كان لايعلم ذلك قبل تلك الأسابيع .. فلوعايشها ستيف حياته الرقمية العلمانية بشيئ من الروحانية الإيمانية، لكان إستقى هذا العلم منذ ولادته وهو يسمع أو يقرأ (كلّ نفس ذائفةُ الموت/صدق الله العظيم) .. بأن الموت حق، بدل أن يستشفّها له أطبّاء السرطان قبيل الموت، رغم كونه إمبراطور العلوم الرقمية لما قبل الموت.!
ومما يقال عن جوبز أنه كان يخطط بنفسه لإنشاء جامعة تقوم بتدريس الافكار والمبادئ التي عمل عليها، وكان العمل على هذه الفكرة جاريا بسرية في الحرم الجامعي في كوبرتينو - كاليفورنيا، وبجهود متضامنة لفريق من الخبراء الذين تولوا التخطيط لهذا المنهج التعليمي، وكانت الفكرة عبارة عن برنامج للتدريب التنفيذي، توضع تحت إسم "جامعة أبل"، وكان جوبز قبل وفاته يولي هذا المشروع اهتماماً كبيراً، معتبراً أن تعليم التنفيذيين في شركته، أمر حيوي بالنسبة لمستقبل الشركة، وطاب لنا ان نقول طوبى لروحك يا جوبز لو بقيت مسلما على دين أجدادك، ولكنت أدركت أدركت بنفسك أن مهنة المعلّم التي كدتّ تتبناها في أرذل العمر،هي المهنة ذاتها التي إمتهنها المعلّم الأول رسول الإنسانية، والذي جاء رسولا ومعلما مكتفيا بحبيبات يابسة من التمر قبل التفاحة المقضومة.
وأخيرا غُلّف ستيف جوبز في كفن وعُلّب في نعش، وكدنا نقول طوبى لروحك على هذا التغليف والتعليب ياجوبز، لوكنت إستشهدت بالشهادتين امام قابض الأرواح .. لآ شك ان جوبز هو الشخص الذي مكّن العالم من "لمس العالم" .. فوضع امام البشرية كلها هاتف ذكي وقال "إلمسوه"، ثم نقل أجهزة الكمبيوتر الروتيني من الرف إلى هذا العملاق الإلكتروني في الكف، وإن لم تنفعه هذه الرقميات يوم تغليفه اليدوي،.. إلا اننا نقول مرة أخرى نعم هكذا الحياة، كلنا نموت يوما كما كنا نعيش أياما .. والفرق في من يعيش أياما ليموت يوما، عمّن يموت يوما ليعيش أياما ..
وقيل مما قيل في صاح النعش الجديد، أنه ايضا قد يعيش أياما إلى جانب من عاش قبله من مخترع الكهرباء وجاذبية الأرض وغيرهما، وانه استمر في إبداعاته حتى اللحظة الاخيرة من حياته، فلنأخذ من هذا الميت عبرة الحياة كيف نعيشها للغير، فإن مخترع الكهرباء نراه اليوم واقفا على أبواب الطوارئ وغرف العناية المركّزة بالمستشفيات ينقذ أرواح الملايين .. ولكن يؤسفنا والقلب يعتصر ألما ان أكتب هذا السطر الآخير:
(لعلك ترى بين أسرّة المرضي ممن استعاد حياته بفضل كهرباء التي أخترعها (توماس إديسون)، يفتي بفتواه التشريعي التحليلي التحريمي التكفيري، في وجه السائل (هل يجوز الترحّم على روح أديسون.؟ لأ لأ ..لايجوز.!
إسطوانةٌ تكررت ذاتها في بعض الفضائيات والمواقع ليلة قبض فيها روح موت جوبنز، وجدتهم متحمسون يردون على السائلين عن صاحب التفاحة المقضومة: (لأ لأ، لايجوز الترحم على ستيف جوبز، ولم أستبعد هذا المفتي كان يقرأ فتواه من شاشة اللابتوب فوقها ماركة التفاحة المقضومة وقد كتب تحتهاأبّل ماكنتوش.!)
- بقلم: أحمد إبراهيم (كاتب إماراتي)
- البريد الإلكتروني: ui@eim.ae