بقلم: د.عبدالوهاب الطريري _ تبقى عبارة الإصلاح الديني حمالة وجوه، ولفظة مجملة يمكن تفسيرها بأكثر من معنى بحسب من يستخدمها، فإذا أردنا الإصلاح الديني بمعناه العام -وهو إعادة الناس إلى الدين الصحيح منزهاً عما لحقه من انحراف في الفهم، وما تراكم من أخطاء في حياة المسلمين خلال عصور الركود والانحطاط- فسنجد مجالات الإصلاح الديني في الإصلاح العقدي لتطهر العقائد من المظاهر الوثنية والعبادات من الغلو الصوفي، والإصلاح العلمي الذي يبث الحياة في فقه الأمة وفكرها بحيث يستوعب التلاحق السريع لإيقاع الحياة المعاصرة، وإصلاح الوعي والفكر بحيث نفتح الآفاق للتألق والإبداع.
الإسلام منزه عن الصدام الحضاري
والإصلاح بهذا المعنى عملية واسعة ضخمة، ومنجز كبير وهدفه أكبر من العبور إلى الحضارة بل استصلاح عام لواقع المسلمين، وهذا معنى تجديد الدين وحقيقة عمل المجددين في تاريخ الأمة، وسيكون المنجز الحضاري إحدى نتائجه، فإن الإسلام دين حضارة وبالتالي لم ولن يقع في صدام مع الحضارات، وهذا هو السر في أن المسلمين في فجر إسلامهم استوعبوا أعظم حضارتين في وقتهم بصورة مذهلة، وكانت بوابة الإسلام أوسع بكثير من الحضارات التي مرت عبرها، ولم يكن بين الإسلام والحضارة جدلية ممانعة، بل علاقة صحيحة ممكنة لصناعة الإسلام داخل الحضارة أو صناعة الحضارة داخل الإسلام.
ودعنا نكن عمليين، فلو أن قطراً إسلامياً ممثلاً في قيادته الفكرية والسياسية أراد العبور إلى طريق الحضارة فهل سيجد في فهمه لدينه ما يمنعه من إصلاح سياسي يعطي الناس حرية التعبير والمشاركة في الحكم والالتزام بحكم القانون، ومن الأخذ بما هو لازم للدولة الحديثة من مؤسسات اقتصادية وإعلامية وتربوية وإدارية؟.
وهل سيجد ما يمنعه من إقامة علاقات مع دول إسلامية وغير إسلامية يرى من مصلحته إقامة العلاقة معها، وهل سيمنعه من الإفادة من كل أنواع العلوم التقنية وتوطينها.
هل سيجد ما يمنعه من الاجتهاد لإيجاد حلول لمشكلات عصره لا تتنافى مع الكتاب والسنة بحسب الفهم المجمع عليه (أما ما لا إجماع عليه فلا إلزام فيه).
إن الإجابة عن ذلك ستكون بالنفي، وستكتشف أن الصدام لن يقع في منجز الحضارة العلمي ولا التقني ونحوه، ولكن سيقع الصدام بين الدين وما هو من أهواء الحضارة الغربية التي صاحبت نهضة الغرب مجرد مصاحبة ولم تكن من أسبابها ولا شرطاً لنهضتها، ولا هي مما يُلزم البشرية به عقل ولا خلق، وإن رآها البعض من شروط التقدم والمعاصرة.
إن الأخذ بكل أسباب الحضارة ممكن إسلامياً وذلك أن العقل جزء لا يتجزأ من الدين، وأن هذا الدين بهدفه الأسمى يحقق (تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها)، وهو دين لا يلزم الناس إلا بما هم قادرون عليه في ظروفهم الزمانية والمكانية: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ولأنه دين إنساني لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو متعلق بالإنسان بما هو به إنسان لا بكونه ابن هذا الزمان أو ذاك المكان أو تلك الثقافة.
أما ما نراه من مصادمات في أرض الواقع فلا يمكن تجاهلها، لكن هذه المصادمات راجعة إلى أمور منها:
1 ـ الخلل في البنية الحضارية.
2 ـ الخلل في طريقة عرض الحضارة كالطرق الاستبدادية.
3 ـ التخلف في المتلقي الإسلامي -وهنا يجب أن نفرق بين الإسلامي والإسلام.
وهناك نوع من التخلف ناتج عن سوء فهم لماضي الحضارة الإسلامية، ويتمثل في الاكتفاء بالتغني بأمجاد الماضي مما يسبب حالات انفعال ضد الحضارة اليوم.
أما حين نقرأ الإسلام كهدي سماوي من خلال التطبيقات النبوية فسنجده سبب الحياة ودافعها، الحياة بمعناها الحقيقي الفاعل المتفاعل المؤثر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). تأمل إنها دعوة للحياة.
فإذا عدت إلى سؤالك مرة أخرى من خلال الفهم السابق للإصلاح الديني (تصحيح التدين وتجديد الدين) فإن الجواب سيكون: نعم، فإن الدين مكون أساسي للشعوب المسلمة لا يمكن سلخها منه والانطلاق بها خارجه، وأي مشروع حضاري أو نهضوي في العالم الإسلامي محكوم عليه بالفشل ما لم يعتمد البعد الديني الذي يحشد الناس ويجيشهم لصالح دعم هذا المشروع.
والانطلاق الحضاري لا بد أن يكون مستصحباً لمنظومة القيم والأخلاق والعلوم والمعارف، والإسلام جاء آمراً أمر وجوب أو استحباب بذلك، فلا بد للحضارات من الإسلام بهذا المفهوم وهذه التركيبة، وإذا كانت الشواهد دليل النجاح فالتاريخ فيه شواهد رائعة.
وليس صحيحا أن الأمم تنطلق حضارياً بعيداً عن منظومة قيمها وتراثها ولا علاقة لها بالمعتقدات إلا إذا كان المقصود به الإنجاز المادي فقط، لكن الواقع أن كل إنجاز حضاري يصطبغ بثقافة الأمة التي أنجزته، حتى المثال الأمريكي الذي ذكرته دليلاً لا يصلح مثالاً؛ فأمريكا هي امتداد لأوربا لغة وديناً وفلسفة، وإن لم يكن لها تاريخ خاص في المنطقة التي تحتلها الآن، لكن تاريخها الفكري يقع خارج هذه الحدود ويمتد إلى الفكر اليوناني.
فلنحذر خداع المصطلحات
بقي القول بأن عبارة الإصلاح الديني قد تطلق ويراد بها غير معناها الحقيقي، وهو ما ينتهي إلى تفريغ النصوص من معناها الذي دلت عليه، وتجاوز ما تتابع علماء المسلمين على فهمه من هذه النصوص وفق الضوابط العامة لفهم دلالتها، وتوليد معان أخرى مخالفة لذلك، وافتراض أن فهم النصوص مرتبط -ضرورة- بزمان القارئ لها ومكانه منطلقاً من فهم خاطئ لنسبية الحقيقة، وهو زعم باطل. فما قام الدليل الصادق على أنه حق لا يمكن أن يقوم دليل آخر على أنه باطل، ولو صدق هذا على الحقائق الدينية والعلمية لما بقي دين ولا علم.
والحقائق الدينية والعلمية لا تقاس صحتها بمدى موافقتها أو مخالفتها لما يشيع في عصر من عصور المجتمع من ثقافات، وإنما تقاس بمدى قوة الدليل الدال على صدقها.
إن نهاية هذه الطريقة -وإن سميت إصلاحا دينيا- تفريغ النصوص من محتواها الدلالي وتحويلها إلى مادة هلامية يمكن تشكيلها وفق القوالب الفكرية، وتفسيرها تفسيراً يتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة والثقافات، وبذلك سنخرج بدلاً من المذاهب الإسلامية بإسلامات مذهبية؛ فهذا إسلام ليبرالي وهذا إسلام يساري، وربما إسلام الحداثة وإسلام ما بعد الحداثة، ويتحول النص الشرعي المحكم إلى نص أدبي ذوقي له معان بعدد قرائه.
وهل يمكن أن يكون هذا تعاملاً محترماً مع نص نؤمن أنه وحي من الله على رسول اصطفاه برسالاته.
ثم ماذا لو طبقنا ذلك على القوانين والدساتير العالمية بحيث تكون معانيها قابلة لهذه التعددية في القراءة والتفسير، فماذا سيبقى منها ليحكم الحياة وينظم السلوك؟.
إن هناك كثيرين لا يستطيعون الانفكاك عن مشكلتهم تجاه الإسلام، ربما بسبب تجربة الإصلاح الأوربي المتمرد على الكنيسة، أو بسبب واقع إسلامي مغلق يفكر في الصدام أكثر مما يفكر في البناء والتعمير. ولا يجوز تفسير الإصلاح الديني من طرف ممانع ضد الإسلام أو التاريخ الإسلامي، بل ثمة حاجة ماسة لريادة إسلامية علمية واقعية تنطلق من الرؤية الشرعية وليس من الواقع، ولا من التاريخ فحسب.
موضوع رائع..شكراً لكم.
ردحذف