جارتنا الصغيرة – قصة قصيرة

- هل ما أقوم به يعد حماقة ؟
كانت أصغر مما توقعت،فهذه هي المرة الأولى التي أراها بوضوح،وعلى الأرجح أن عمرها لا يتجاوز العشرين عاما على أبعد تقدير، وجهها جذابا بصورة لا تمكنك من معرفة سر جاذبيتها تلك،فقط تشعر أن ثمة جمالا غريبا يسكن بين تلك الملامح الهادئة وكأنها لوحة رسمت بيد أحد عباقرة فنانى القرن الثامن عشر الميلادي .
كانت أجمل بكثير عما حدثتني زوجتي،فهي فتاة دقيقة الملامح،خمرية البشرة،شفتها السفلى مسترخية وناضجة تجزم أن دمها سيطفر في أي لحظة ،ولها عينان كاحلتان انسدلت أهدابها حتى تثنت للأعلى فأكسبتها سحرا فاتنا ،بينما كانت سحنتها هادئة تشعرك أن ثمة ألم حنط جمالها فاستسلمت له بخنوع .
كانت تقف في البلكونة لنشر غسيلها،وكان من عادتي أن أتراجع عند رؤية إحدى الجارات إذا جمعتنا حوادث طارئة،ولم يكن هذا عفافا أو ورعا إنما استجابة لخوف ينتابني من أن تلحق بسيرتي أقاويل النسوة من أن عيني طويلة وحادة،أو أن تتبرع إحداهن وتبلغ زوجتي عن اتساع عينيي عندها لن تكف زوجتي عن تأنيبي وتذكيري بأنني أقدمت على شيء عظيم وأنها لن تغفره لي وستظل تعيرني به كلما حاولت أن أكون سيد البيت..لكن هذه المرة تخليت عن تخوفي أمام فتنة جارتنا الصغيرة ، وأخذت أتطلع إليها بنشوة .
كان مقدمها إلى الحي حدثا تناقلته النسوة بدهشة واشمئزاز ففي أول ليلة لمقدمها تعالت صرخاتها ونحيبها،وكنا نسمعها تصرخ باستغاثة محمومة :
- ارحمني..
وتذهب استغاثتها تيقظ سكون الليل من غير أن تجد أحدا يجفف استغاثتها المبللة في المسامع ،وهذا لا ينف إنصات الجيران لتلك الصرخات المحمومة بكثير من التحفز والاستغراب،كنت قد استويت في مرقدي وخاطبت زوجتي بدهشة :
- أهذا صوت العروسة الجديدة ؟
فتهز رأسها كدمية تنتظر أن تنتهي تلك المعزوفة الركيكة لتوقف اهتزازها المتكرر أمام دهشتي المفتعلة،حاولت أن عرف منها شيئا عنها لكنها أبدت عدم معرفة مسبقة بها،وبكلمات مقتضبة أخبرتني أن العريس ليس صغيرا وقد سبق له الزواج مرات عديدة،كانت هذه الأخبار جزء مما تناقلته نساء الحي عن الساكن الجديد نقلا عن زوجة صاحب العمارة،وقبل أن تطول استفساراتي أبدت امتعاضها من أولئك الرجال الذين يسعون لإشباع نزواتهم من غير أن يفكروا بمصير أبناءهم،ولم أحاول التعليق على ذلك الامتعاض خشية أن تنقلب ليلتنا إلى صراخ متبادل .
كان صراخ أنثوي يمتد في هجعة الليل بانكسار وألم مبرحين،وإزاء هذا الاستنجاد المحموم تقافزت عيوننا من خلال البلكونات والنوافذ فلا نلمح إلا عيوننا الرابضة والمتربصة بتلك الغرفة ذات الأضواء الشاحبة والمغطى بستارة غامقة.
يبدو أننا شعرنا بالخجل من تحديقنا المتبادل فانسلت عيوننا إلي داخل جحورها واكتفينا بسماع تلك الصرخات المستغيثة والتي تكتم حينا وتشق سكون الليل أحيانا كثيرة وكأنها هاربة من فم محكم الإغلاق،وشيئا فشيء أخذت تتراخى تلك الصرخات وتجاور ألمها بصمت .
لم أجد رغبة في النوم فنهضت من مرقدي أبحث عن علبة الدخان وتركت زوجتي تسترخي كقطة أخذت تتلوي وتتهيأ لبسط أعضائها بما يحقق لها الاستحواذ على أكبر مساحة من سرير نومنا الخشبي،كنت أذرع غرفتنا الضيقة بخطوات متناسقة فى محاولة أن لا أتعثر بالتحف التي تملأ حيزا كبيرا من جنبات الغرفة ..تهيأت أن جرس الباب يدق،سخت السمع محاولا إهمال صوت المكيف الذي يئز برتابة يقطعه بين حين وآخر صوت أقل ضجيجا،كانت أضواء الغرفة مغلقة فلم أتمكن من الحصول على علبة الدخان مما حملني على فتح نور الإضاءة لتنهض زوجتي متأففة:
- تحب دائما إزعاجي
اعتذرت بطرف لساني كطفل أدمن الاعتذار المتكرر،كان صوت الجرس يصل متقطعا أكدت هذا زوجتي بشيء من السخرية :
- ألا تسمع الباب،أم أنك تسمع صياح النساء فقط ؟
لم أشأ أن نتبادل الممحكات،فأهملتها وهي لا تزال تتمطى على السرير،واتجهت مباشرة لأرى من الطارق،كنت أهمس لنفسي:
- من يكون هذا الزائر المزعج ؟
رفعت صوتي من خلف الباب :
- من ؟
- أنا جارك الجديد..
فتحت الباب على عجل كان يقف رجلا خمسينيا ذو جثة ضخمة لا تزال عالقة بملامحه أثار فرح بكر،ولذة منهزمة كان يقطم الكلمات قطما:
- عذرا للإزعاج ..
أبديت عدم الاكتراث،وأفهمته أننا لا نزال مستيقظين،فقال على عجل:
- الأهل يعانون من حالة نزيف فهل بإمكانك نقلنا للمستشفى
- سلامات
- الله يسلمك
- خير
وقف أمامي مباشرة ووجهه يطفح بالضيق من تطفلي،ومحاولتي إقحام نفسي في أمر لم يود الإفصاح عنه،فاستدركت على عجل :
- حسنا فقط أرتدي ملابسي
ودعوته للدخول لكنه امتنع وواعد بزيارة أخرى في وقت مناسب،تحركت للداخل لارتداء ملابسي،وتركت الباب مواربا،كانت زوجتي قد غادرت فراشها ووقفت في الصالة وعندما رأتني بادرت بالأسئلة :
- من الطارق ؟
- العريس
- ماذا يريد
- المستشفى
- طبعا تبرعت بنفسك لأداء المهمة
- ...
- تعجبك هذه الفزعات
- ......
- لو كنت أنا المريضة لادعيت بأنك متعب أو على وشك النوم ولأجبرتني على تحمل الألم مقابل أن تستمتع بنومك .
- .......
- لماذا لا ترد
- ماذا أقول ؟
- قل انك مغرم برؤية النساء وإظهار شهامتك لهن
- الذي يقف على الباب رجل وليس امرأة
- أنت تقدم السبت
- وأنت تقدمين سوء ظنك
واتجهت مباشرة لعلاقة الملابس وكنا على وشك أن نسمع الجيران أصواتنا لأنها ألقت بالثوب الذي كنت أرتديه في الغسالة وليس هناك ثوبا بديلا واحتجت على غضبتي المفاجئة بأنها دائما ما تنهض معي وتقوم بكى ثيبابي قبل مغادرتي للعمل وذلك أثناء تناولي لوجبة الافطار،واختصارا لموال طويل فقد اتجهت إلى خزينة الملابس وارتديت ثوبا مغربيا وهممت بالخروج فأمسكت بي :
- تريد أن تفضحني .
وأصرت على أن تقوم بكى ثوب آخر وأقسمت أنها ستنجز مهمة الكي قبل أن أخرج من الحمام،فأصررت على الخروج بالرغم من تلك الكلمات التي قذفتها على مسامعي :
- أنت دائما تسعى لفضيحتي حين تخرج بثياب لا تليق برجل متزوج،ماذا يقول الناس عني ؟ لا أهتم بهندامك .
عندما خرجت لم يكن جاري في مكانه،فنزلت من سلم الدرج وانتظرت بجوار سيارتي بعد أن أدرت محركها لكنه لم يظهر وفكرت أن أقوم باستدعائه ،وبعد انتظار طويل صعدت إلى شقته وقرعت الجرس وانتظرت وأعدت المحاولة وانتظرت..عندها أيقنت أن جاري لم ينتظرني أو أنه سمع مجادلتنا أنا وزوجتي فقرر أن يستعين بشخص آخر فعدت إلى البيت لأجد زوجتي قد رتبت نفسها لخوض شجار استنبتته من حكايات قديمة،كانت مستنفرة وفي حالة عدائية تدربت على شنها في مثل هذه الحالات ،وبدأنا الشجار الذي انتهى بأن حملت وسادتي وغطائي ونمت في الغرفة المجاورة بينما كان صوتها يلعن حظها العاثر .
في صباح ذلك اليوم انتشر خبر تلك الفتاة بين النساء ويبدو أن زوجة عبدالله حسين من قام بتسريب الخبر.. وظل الخبر غارقا في أفواه النساء لمدة طويلة حتى أن الفتيات أقسمن أن لا يتزوجن فقد كان الخبر كفيلا بجعلهن يفضلن العنوسة على الموت تحت ثور لاهث .
في بادي الأمر كان خبر العروسة غامضا حيث قيل أن بكارتها استعصت على زوجها مما حمله على وكزها بقوة جعل الدم يتدفق بغزارة،وعلقن المسنات على هذه الحكاية بأن فتيات هذا الزمان أرق من ورق السلفان،لكن هؤلاء المسنات سحبن هذا التعليق واستبدلنه باللوم على رجال هذا الزمان الذين يبحثون عن البكور ليذقونهن فحولة رخوة لا تقيمها إلا أصابع اليد .
ومع تدفق النسوة على بيت العروسة خرجت أخبار مدفونة كثيرة فروت ليلى – جارتها الملاصقة - أنه استبدل عضوه بإبهامه وأخرى –زوجة من قام بنقله إلى المستشفى - روت أنه اندفع على المسكينة كحيوان كاسر فجر القناتين وجعل مجراهما واحدا وهذا يفسر لي قول زوجتي - فيما بعد - :
- بأنها فتاة تسير كالضباع
لا أدري لماذا أصبحت جارتنا الصغيرة محل اهتمامي وقد حاولت في بادئ الأمر أن أراها وزادت هذه الرغبة إلحاحا كلما سمعت زوجتي تروي لي شيئا مما سمعته في مجلس النساء عن هذه العروس.. وتحولت مع الأيام إلى جدول يومي نتحدث فيه (أقودها للحديث عنها من حيث لا تدري)،فروت أنها ابنة لأحد ضعفاء النفوس فقد باعها لهذا المسن مقابل عمارة.. وروت أن هذه الفتاة على علاقة بشاب لم ينقطع عنها حتى بعد الزواج حيث تناقلت النسوة - أيضا - أنه يقف يوميا أمام منزلها كلما غادر زوجها البيت للعمل،وروت عن جارتها أن العروسة زميلة لإحدى بنات العريس وأنها كانت تناديه بلقب
(يا عم ) حين تحضر لزيارة ابنته .
اليوم رأيتها كانت أجمل بكثير عما حدثتني زوجتي شعرت بوجودي وأنا أحدق في وجهها بانبهار فرمقتني بنصف نظرة وأطلقت ابتسامة خفيفة،فتشجعت وهمست:
- مساء الخير
تطلعت صوبي بدلال وحملت غسيلها وانسحبت إلى داخل شقتها،وهى تتطلع صوبي،وبخبث غمزتها بعيني،فاتسعت ابتسامتها وحركت يدها مشيرة بالانتظار .

عبده خال 2000 مارس

إرسال تعليق

أحدث أقدم