صراع الحضارات في المفهوم الإسلامي

صراع الحضارات تقوم العلاقات الإنسانية في الرؤية الإسلامية، على أساس التعارف والتعاون على البر والتقوى، من منطلق  وحدة الجنس البشري ووحدة الأصل المنبثق عن المشيئة الإلهية. يقول اللَّه تعالى في محكم تنزيله : { ياأيها  الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} (17). والتعارف في المصطلح القرآني يتعدَّى المعنى اللغوي المباشر، إلى معاني أعمق مفهوماً وأوسع دلالة. فلقد خلق الناس وجعلهم شعوباً شتى وقبائل متفرقة يسعون في الأرض من أجل غاية سامية قدرها الخالق سبحانه، هي التعارفُ فيما بينهم، الذي يرتقى إلى مستوى أعلى هو (تبادل المعرفة) أو (تبادل المعارف) بكل ما في المعنيين من دلالات لغوية ومعرفية وإنسانية عميقة. فكلما اتسعت مساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب والأمم، على مختلف المستويات، ضاقت مساحة الخلاف وانزوى الاختلاف وتَرَاجَعَ وفقد القدرة على التأثير السلبي الذي يُلحق أفدح الأضرار بالمجتمعات الإنسانية. أما التقوى التي هي القاعدة الثانية للعلاقات الإنسانية والتي كُلف الإنسان بها وبالدعوة إليها وبالتعاون عليها، فهي كما يقول الشيخ محمود شلتوت، يرحمه اللَّه : >أما تقوى اللَّه تعالى، فهي ترفع في معناها العام إلى اتقاء الإنسان كل ما يضره في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والكمال الممكن في الدنيا والآخرة. والتقوى ليست خاصة بنوع من الطاعات، ولا بشيء من المظاهر، وإنما هي كما قلنا، اتقاء الإنسان كل ما يضره في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين الكمال الممكن. ومن ثمرات التقوى حصول الفرقان ــ ما يفرق به المرء بين الخير والشر والضارّ والنافع في هذه الحياة ــ ، فالعلم الصحيح، والقوّة، والعمل النافع، والخلق الكريم، وما إلى ذلك من آثار التقوى، والتقوى هي الشجرة والفرقان هو الثمرة< (18).

فهذا المفهوم العميق والشامل للتقوى الذي يجمع أطراف الخير ومكارم البر ووجوه الإحسان وفضائل الأعمال، هو الذي يؤكد أهمية التعاون الإنساني على البر والتقوى. يقول تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (19)، فالتعارف يؤدي إلى التعاون على البر والتقوى وهما جماع الخير والمنافع للإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، بهما تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، أما الإثم والعدوان، فهما جماع الشرور والأضرار والتشوّهات التي تلحق بالفطرة السويّة، وتُفضي إلى الحروب والنزاعات، وتؤجّج نيران الصراع المدمّر للحضارة الإنسانية.

و(التدافع الحضاري) في المفهوم الإسلامي، هوسنة اللَّه في الكون، لا (الصراع الحضاري أو الصدام الحضاري). وليس يعني ذلك أن الحياة تسير وفق خط بياني صاعد ومطّرد تتحقق فيه المصالح والمنافع للناس كافة في جميع الأحوال وتترقى ذواتهم، وأن الخير والشر لا يتصادمان، وإنما القصد من ذلك أن التدافع يُبطل الصراع، وأن الخير يغلب على الشر، وأن الحضارات تَتَواصَلُ وتَتَلاقَحُ وتَتَدافَعُ ولا تَتَصَارَعُ، وأن {اللَّه متمّ نوره ولو كره الكافرون}(20)، ونورُ اللَّه في هذا السياق القرآني، هو المشيئة الإلهية، والإيمان بالله ونصرة المؤمنين، وهو الخير والعدل والفضيلة ومكارم الأخلاق والسلام في النفس وفي الأرض، وتلك هي مقوّمات الحضارة التي تخدم الإنسان، مصداقاً لقوله تعالى {واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(21)، وأمرُ اللَّه في هذا السياق القرآني أيضاً، هو مشيئته  تعالى الغالبة، وهو الحق والعدل اللذان هما قاعدتا الحضارة التي يسعد  الإنسان في كنفها ويُبدع ويعمّر الأرض ويصلح ولا يفسد.

وفي المفهوم الإسلامي، فإن الصراع حالةٌ عارضةٌ، وهو شذوذٌ عن القاعدة، وليس طبيعةً من طبائع الحضارات، لأنه يَتَنافَى والفطرة الإنسانية، وهو نقيضُ التفاعل الحضاري الذي قامت الحضارة الإسلامية على أساسه، وهو إلى ذلك كلِّه، البديلُ الموضوعيُّ للفوضى التي تسود الأوساط الفكرية والسياسية في العالم اليوم، من جرّاء شيوع مفاهيم مغلوطة ورؤى مشوّشة وتحليلات مغرضة تدفع بحركة الفكر العالمي وبالسياسة الدولية على وجه العموم، نحو مناطق مجهولةٍ محفوفةٍ بالمخاطر التي تتهدَّد الإنسانية في حاضرها وفي مستقبلها.

إن الترويج لفكرة صراع الحضارات أو صدامها، يخدم أغراض فئة من البشر تسعى إلى إحكام سيطرتها على مقاليد الأمور في العالم أجمع، وهي أغراض ليست بريئة، وليست لها صلة بالأهداف الإنسانية النبيلة التي تنبع من المبادئ والقيم الحضارية البانية للإنسان وللعمران وللحضارة.

*الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

2 تعليقات

  1. فريدة من نوعها28 أكتوبر, 2009 11:42

    شكراً.. جزيلاً ...

    ردحذف
  2. مرتاح أحبك28 أكتوبر, 2009 17:02

    موضوع يسبب صداع

    ردحذف
أحدث أقدم