صباح اليوم أولادي رموا الأقلام بالحقيبة في الهواء مطلقين سيقانهم للرياح مغرّدين: "هآآآآي .. هآآآآآآو خلّصنا الإمتحانات، ماما ودّينا مكان، بابا خلينا نسافر" ..!
لم تعد الحقيبة المدرسية لوحدها في الهواء، جنبها تتطاير حقائب أخرى: وزارية، دبلوماسية، قضائية للوزراء والقضاة، والمحامون ورجال أعمال .. الكلُّ إستبدل الحقائب المتأبّطة أثقالها، بتذاكر وجوازات سفر خفيفة بين الخُنصر والإبهام نحو المطارات .. لكن إلى أين هذا الصيف؟.
دمشق وبغداد وبيروت والقاهرة إلى تونس وصنعاء لم تعد مصائفها بالمكياج والمساحيق، ولاشواطئها بالديباج والحُلى والحُلل .. مصّيفوا بلاد الشام وجدوها هذا العام شريعة الغاب من الريف للحضر بأسد لم يكن لوحده، بل ومعه النمور والكلاب والذئاب على الشعب، قس عليها عواصم الربيع العربي (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
صيفنا هذا العام أراضيه بلا تراب فوق جثامين بلا عظام، فلنتركها الأراضي لمن لايشبع منها دون ان يُدفن فيها، نتركها لدباباته ومدرّعاته وصواريخه، ونتجه الى مصايف لم ترتدها أشرعتنا بعد، إلى كوكب الحياة بلا موت، الى ذلك الإنسان الذي لايموت.!
من باع كل ما في بيته من عفش وأثاث للرغيف ولم يبق الا هو وآخر رغيف، أيبيع نفسه للرغيف أم يُضحّي الرغيف بالرغيف، ثم يذهب إلى أين.؟! .. هذا السؤال المبهم، أغناني من التفكير فيمن يعاني من الرغيف آمنا، عن التفكير فيمن يغوص البذخ والثراء الفاحش ويتعطش للأمن. كان يتقلبّ على صفائح الذهب والفضة، وبات في ليلة وضحاها يستنجد بالشجر والحجر لرمق الحياة، عواصم الربيع العربي غير جائعة لشرائح الرغبف، وظمأنة لقطرات من الأمن والأمان.
أين نذهب هذا الصيف بحثا عن الحياة وعن ما يُطيل الحياة؟ خاصة بعد نجاح الأختبارات العُشبية بجبال هملايا والصين ونيبال، وأخرى بمختبرات علمية للولايات المتحدة وألمانيا الإتحادية، وأخبار شبه مؤكدة عن قرب إنتاجها (الخلطة السحرية) التي يقال عنها انها ستطيل الأعمار، وأنها إجتازت إختباراتها على حيوانات ما قبل الانسان من الفئران والضفادج بنجاح، وإنها الحُقنة السحرية الخضراء، (ماء الحياة) إن صح التعبير، التي ستغزو الأسواق قريبا في سباق مع الحبة الزرقاء المسبوقة (الفياغرا).
سباق الخضراء بالزرقاء هو النمر بالسلحفاة، والتقارير تؤكد ان الانسان بمقدوره ان يطيل عمره قدرما يشاء، (ماء الحياة) وشيكة التعليب والتدشين، لكن اليهود والنصارى والبوذيون الذين نكفّرهم عادة، قد لايصدّروها لعواصمنا بحجّة انها عواصم تجيد صناعة الموت قد تُحرّم دخولها ماء الحياة.؟ أنذهب نحن إلى تلك إلعواصم إذن إن لم نجدها في صيدلياتنا؟ خاصة إذا تحقق ما يقال عن جرعاتها بأنها سترفع معدل الأعمار من سبعة الى عشرة سنوات في المرحلة الأولى، ومن عشرين الى خمسة وثلاثين في المرحلة الثانية، ثم إلى ما لانهاية، أو قدرما يريدها الإنسان على كوكب الأرض.!
مزاعم يجب ان لانتهمها بخرافة، لا نرفسها "شرك شرك" ولاننكرها قبل الأوان، فقد أنكرنا قبلها زعم (أبولو 11) انه هبط بالإنسان على سطح القمر بانه شرك وخرافة، ثم غيرنا الفتوى بلا مانع من الإعتراف أنه كان بإرادة الخالق الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، كنا بالأمس القريب والبعيد نرفض التلفاز والمذياع، وقبلهما نحطم الساعات وأجهزة اللاسلكي ولازلنا نحطم الكاميرات في أفغانستان بفتاوي أنها مسكونة بالشيطان، وفي إيران شعارات الموت لأميركا في الشوارع جهرا، وخلفها في الدهاليز ليلا يبحثون عن السوق السوداء لقطع غيار الطائرات الأمريكية وسفنها وبواخرها ومركباتها.
.
مهما نلعن شياطين الجن وتضليلاتها، علينا ان نتصالح قليلا مع شياطين الإنس وتقنياتها، قد يأتينا الغد القريب او البعيد بمفاجئات نكفّرها في الأضواء ونبحث عنها في الظلام، فلنؤمن أن كل شي ممكن بإرادة الخالق الذي خلق الانسان فأحس خلقه، وسامه اشرف المخلوقات (العقل)، وعلّمه العلم والبيان.
وتحضرني بالمناسبة اسطورة الملك (إسكندر)، لا أجزم ولا أدري إن كان هو الإسكندر الأقدوني ام غيره، أراد يوما (ماء الحياة) بما أوتى من قوة وسلطان، فحوطوه مستشاروه المخلصون: (توكل ياصاحب الجلالة على بركة الله، إحمل في يدك سمكة ميتة مجففة، ابحر بها ظلمات البحار السبع، تجد في إحداها (ماء الحياة)، نبعا عذبا لاهواء فوقه ولاسماء، لا شمس ولانجوم ولاقمر، لكن عليك ان تقطع بنفسك ياجلالة الإسكندر تلك البحار السبع بظلماتها لتنتهى على ماء الحياة، بياضها لبنٌ وطعمها عسل، قطراتها كنجوم السماء وداناتها بلمعان اللئالئ، إذهب ياإسكندرباشا وفي يدك سمكة مجفّفة، أغطّس رأسها كل نبع وبئر، فإذا انزلقت السمكة الميتة من يدك حية مترفرفة في الما، فأعلم أنك وجدتها، إشرب منها ماتشاء، فإنك ستعيش الى مالا تشاء.!
لاأدري الإسكندرالأقدوني هذا او الأسطوري إن كان شرب من ذلك الماء أم لم يشرب، إذ لم نجد إسمه بين السلاطين الأحياء، لكن القصة كانت ترويها لنا الأطفال يوما جدتي المرحومة في بيوتنا العُشبية، بان (ماءالحياة) تلك لم يصلها الإسكندر، بينما وصلها احدى مرافقية الصغار، وهو الآن حى يرزق وهو النبي خضر عليه السلام (...)
نحن لن نصل إلى ماء الحياة فلا نريدها ...(العنب طعمه حامضٌ لثعلب لم يبلغ أغصانها)... فلنذهب هذا الصيف إلى حيث نستعيد فيه الوجاهة العربية المفقودة، لكن متى وأين إفتقدناها تلك (الوجاهة.؟ ومن سلبها منا عنوة لنستعيدها منه بالذات جهرا.؟ .. لعلنا إفتقدناها في غرفة الولادة بجوار فكرة أنجبت دون الإجهاض، لم تتبخر تلك الفكرة في المخاض فلن تتلاشي في الأحضان بين القابلات والمرضعات والمربيات، بل وتزدهر نجمتها بين بابا الفاتيكان وشيخ الصولجان، ومهدىُّ آخر الزمان بالتخصيب تلو التخصيب.!
الصيف العربي أينما قادنا هذا العام فلُنصقله بالفكر السليم للجسم السليم، ولنُروّضه بالعقل السليم دون فتنة او فساد في الأرض: (فكرةٌ فبذرة، فشجرةٌ وارفة الظلال يانعة الثمار) .. وهى الحياة تلو الحياة لربيع العرب دون الخريف في حديقة ذلك البُستانىُّ الذي لايموت.
- أحمد إبراهيم ( كاتب إماراتي )
- ui@eim.ae