تاج الحرية



تاج الحرية لا يرتديه إلا الساعين للحريةِ أو الشهداءُ الذين تحرروا من الدنيا و هم في سبيل قيمة أعلى بكثير من الحياة نفسها، أما الجبناء العابدون لذواتهم و لغيرهم فأعمارهم طويلة، حتى إبليس نفسه مخلدٌ في الأرض إلى قيام الساعة و هو شيخ العابدين لذواتهم.
فالحرية ليست كلمة تقال و تصدح بها الحناجر، و لا هي شعاراتٌ ترفع و لافتاتٌ يتخذها المتظاهرينَ في الشوارعِ، الحريةٌ قيمةٌ أسمى بكثيرٍ من هذا.
في البدايةِ يجبُ أن يَحُسُ الإنسان بحريته الشخصية، أي يستطيع أن يتخذ القرار الذي يحلو له في الوقت الذي يراه جيداً، بالطبع دون الجوّرِ على حريةِ الآخرين، و يكون هذا بلا خوف أن يرده أحد أو يراجعه كائنٌ من كان، فهو حرٌ في اتخاذ قراراته دون تحفظات، مستنداً على قيم و أخلاقيات عامة و أطر اجتماعية تستند إلى البديهي من الأخلاق التي لا يختلف عليها عربي أو أعجمي، فالإنسان يولد حراً بلا قيود، ينشأ حراً فالطفل لا يعرف القيود و لا يفهمها، و لكنه يعي إذا ما كبلته من يديه أو رجليه أن هذا تضييق على حريته، فيحاول التخلص من قبضتك ليعود حراً كما كان، و هذا في الواقع له مردود نفسي على الطفل في المستقبل، و كذلك إذا ما ضيق الأب على أبنائه في المصروفات مثلاً أو الحاجات الشخصية، أو إذا ما مارست الأم هذا بدعوى التعليم أو التأديب، و لأن الطفل  لا يعي هذا ينقلب الحال عنده لحالة الضيق المكبوت الذي لا يستطيع أن يعبر عنه فيظل حبيس عقله الباطن و ينتظر فقط الفرصة المواتية للخروج.
و هذا الطفل عندما يشتد عوده يكون دائماً من المنضوين تحت راية جماعة أو فئة، تتعامل بنفس المنهج الذي انتهجه الأب، و يكون الوضع أشد خطورة إذا ما كان هذا تحت ستار الدين و الطاعة العمياء، مع أن الأديان تنادي بالحريات و تحرم التبعية للمخلوق من دون الخالق.
هذا الطفل الذي نشأ مكبل الإرادة ، في بيئة تضيّق عليه الخناق، بأوامر مثل...لا تفعل...لا تتكلم...لا تقل رأيك....لا تناقش، ينشأ هذا الطفل مشوه النفس فاقد لمعنى الحرية و الإرادة القوية في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب في حياته المستقبلية، حتى و لو كان هذا القرار مصيرياً كقرار الزواج مثلاً.
فإذا ما كبر هذا الطفل و أصبح شاباً، و قرر أبوه مثلاً أن يزوجه من ابنة صديقه أو أبنة أخيه، و كان مقدار الخوف من الأب في قلب هذا الشاب أكبر من مقدار الاحترام فحتماً سيرضخ لرغبة الأب، حتى و لو نغص عليه هذا الزواج بقية حياته، فهو من ناحية هروب من تبعية يرفضها داخله لأبيه الذي سلب حريته يتحول هذا إلى إرادة جزئية في منزله يمارس فيه حريته المنشودة المفقودة مع تلك الإنسانة المختارة له، و غالباً ما تكون حياتهما غير مستقرة أبداً، فسرعان ما تتخلق المشاكل من عدم بلا سبب مفهوم، و تظل الزوجة حائرة طول الوقت و لا تستطيع فهم زوجها الذي غالباً ما يشطح في استعمال الحرية لدرجة التسلط، و أحادية الرأي ليشعر فقط أن زوجته مسلوبة الإرادة و هذا يحقق توازناً نفسياً له بالطبع، و العلاج هنا ليس إلا الانفصال.
أمّا إذا مات الأب فإن هذا الشاب يحس أن جبلاً قد انزاح من فوق صدره و عقله، و غالباً ما يلجأ إلى أحد أمرين، إما أن يستغني تماماً عن الزوجة المفروضة عليه، و هذا القرار يكون في منتهى السهولة ، و ذلك لانتفاء المتنفس لحريته، فهو الآن قد تحرر نفسياً و لم يعد هناك داعٍ لوجودها في حياته بعد زوال المؤثر.
 و الأمر الآخر هو أن يستمر في مواصلة الحياة مع هذه الزوجة و لكن بمعايير مختلفة خاصة لو كان قد تولد حباً بينهما، و هنا تستمر الحياة بطريقة هادئة، و ستفاجأ الزوجة برجل آخر ودوداً حانياً ، و يمكنهما أن يصنعا نموذجاً للأسرة الهادئة السعيدة، و في الحالتين لا يهم أبداً وجود أطفال بينهما.
هذا على النطاق الشخصي أو على مستوى الحرية الشخصية، و هذا يؤثر تأثيراً كبيراً على  إحساس الإنسان بحريته في رفض الخطأ الذي يصدر عن شخص ما أكثر سطوة، أو حاكما فاسداً، يتطلب هذا النوع من الحرية -و هي الحرية العامة أو حرية المجتمع ككل-  يتطلب هذا التظافر مع من هم يحسون بنفس الأحاسيس ليكونوا جبهة ضد الظلم، فمجابهة الظلم بقوة يتطلب قدراً  كبيراً من التماسك و القوة الذاتية التي تذوب مع قوى الآخرين ممن هم على نفس الهدف و نفس الشاكلة.
مثال:
موظف بسيط في إحدى المصالح يتعرض للاضطهاد من قِبل مديره، بالطبع هذا الاضطهاد يحرك في نفوس المتابعين حمية خاصة و لكنها تختبئ داخل صدر كل منهم بشكل منفرد، فإذا ما استجار هذا الموظف بزملائه و عدد لهم أسباب القهر و التضييق عليه، ستتحد هذه الأجزاء في نفوس الزملاء و تصبح قوة دفعٍ كبيرة في مواجهة المدير، و لكن هب أن هذا المدير من القوة و التسلط و استطاع تفتيت هذه الطاقة بدس الأكاذيب مثلاً و التشكيك في مصداقية زميلهم المظلوم، فبالطبع سيكون هناك فريقان، ففريق سيؤثر السلامة و ينهزم و يعود أدراجه، و ليس بمستبعد أن يتحول قسم منهم ضد مؤازرين للمدير الظالم، و فريق آخر سيصمد و هؤلاء دائماً ما يكونون قلة، و هم غالباً ما يكونون ممن تربوا على الممارسة الصحيحة للحرية و الذين يرفضون الظلم و التعنت ، و سيمارسون حريتهم في مساندة الموظف المظلوم بأن يعاونوه في رفع شكواه إلى جهة أعلى مثلاً باحثين عن حقه المهدور، أما الفريق المنهزم، فهو يكره العمل بروح الجماعة أو أنه تربى على الانهزامية و استسهال الأمور و إيثار السلامة و السكينة و الاستقرار الزائف، و هم أغلبية.
و في حالة التجمع الأولى قبل أن يشتتهم المدير يكون الجميع بلا استثناء مع المظلوم، قسم عن قناعة و قسم خجلاً من أن يقال عليه أنه لا شهامة عنده و ما شابه ذلك، و هم أول المتخلون عن موقفهم.
من هذا يتبين لنا أن حماة الحريات و المنادين بها و الباذلين من أجلها الغالي و النفيس هم أقلية دائماً
حتى الأنبياء الذين جاءوا بخبر السماء و هداية البشر، لم يتبعهم إلا الأقليات المستضعفة المقهورة المسلوبة الحقوق و الحريات.
و لنرى هذا المثال أيضاً
دولة محتلة من قِبل دولة أخرى، هنا كل الشعب واقع تحت نفس التأثير المقيت و هو أن حرية الجميع مسلوبة، و ترى تجمع الشعوب و تكاتفها دائماً ما يكون الأقوى في الدول المحتلة، و الأمثلة التاريخية كثيرة عصية على الحصر، و هنا يجب أن تكون كل القوى متظافرة لا مكان لمتخاذل و إلا سيلفظ بسرعة من المجموع ، و غالباً ما يوصم بالخيانة و ينفذ فيه حكم الإعدام حتى لا تنتشر عدوى التخاذل بين صفوف الساعين لحرية الوطن فيخسرون جميعاً، و تتجمع القوى الصغيرة من داخل النفوس التواقة للحرية حتى تكون كتلة ضخمة فإذا ما خرجت لمجابهة أعتى دول الاحتلال لأخرجته، و لهذا أيضاً أمثلة تاريخية كثيرة.
ففي هذه الحالة سهل أن يشعل الأحرار جذوة الفكرة في قلوب الناس و يذكرونهم بالهوان و الذل فتجد الجميع مؤازراً بطريقته.
و لكن لو كانت هذه الدولة يحكمها حاكم منها و لكنه فاسداً، الأمر الطبيعي أن يثور عليه الناس، و لكن لماذا تطول فترات حكم الطواغيت لبلادهم دون أن يغيرهم أو يثور عليهم مواطنيهم، الأمر هنا مختلف، فالحاكم الطاغية يبدأ من اليوم الأول لحكمه -الذي يأتي دائماً عقب انقلاب عسكري، أو تحرر من مستعمر- تجده يوطد لحكمه باختيار أفسد الأشخاص و تعيينهم في أشد الأماكن حساسية في الدولة - كالإعلام مثلاً - في سبيل سعيه لصنع عقول مصدقة له، و تتفنن أجهزة الإعلام في تمجيد شخص الحاكم و تصويره على أنه الملهم و البطل و الفارس المغوار، هذا بالطبع يستقطب أعداداً ضخمة تصدقه و خاصة إذا تزامن هذا في إهمال التعليم عن عمد و تكميم الأفواه الناطقة برأي أو المنادية بحق، و أيضاً تعمد إفشاء الأمراض بشكل مباشر أو غير مباشر بإهمال العلاج، و ترك الناس لثالوث الخطر، الفقر و الجهل و المرض، في هذه الحالة يكون من الصعب إقناع الجماهير الكثيفة بظلم هذا الحاكم ، و كثيراً ما أُجهضت ثورات بذات الأسباب التي قامت من أجل إزالتها، و العمل لتجميع قوى التحرر في النفوس يكون أصعب من الحالة السابقة لانعدام الدافع القوي الظاهر و الذي يهدد الأمة بشكل صارخ، فالأنظمة الحاكمة دائماً ما تصنع لها بطانة منتفعين يذودون عنها وقت الشدائد، و يكونون ملكيون أكثر من ملوكهم، بالطبع لمكاسب مادية و معنوية كثيرة تعميهم عن الحق، و تراهم مشوهون ظاهرين للكل، و لكن للعجب تجد كثيرون يصدقونهم، في وسط هذا العفن تجد دائماً من يحرك المياه الراكدة، و التي ما يسميها النظام الفاسد المفسد استقراراً و يصدقه الجاهلون، و تجد الفئة الغير ملوثة صعوبة شديدة في تجميع القوى و شحذ الهمم، و لكن عند نقطة معينة يحسبها النظام الحاكم أقوى نقطة له، تنطلق الثورة من الشوارع من حيث لا يحتسب، و يكون أول ردة فعل له – و هذا يعود لشدة غبائه و وهمه أنه قد سيطر على كل شيء - تكون أول ردة فعل هي التجاهل و الاستصغار و التحقير، و يبدأ في حشد القوى التي أعدها لهذا الوقت لسحق الذين خرجوا من جحورهم- من وجهة نظره- و تكون المفاجأة هي ازدياد المنضمين لجحافل الأحرار في لقطة مدهشة يفغر فيها النظام فاه، و عندما يبدأ في استيعاب الصدمة يكون الأوان قد فات.
فمفهوم الحرية هنا عند هذا الحاكم هو نفس مفهوم الحرية عند الأب المتسلط في أول مثال، فهو يرى أنه يمنح و يمنع متى يشاء، و يعتقد أنه خلق أجيالا من التابعين له بلا تفكير، هكذا يتوهم و يوهمه حاشية المنتفعين الذين يكونون أول المضحين به إذا ما جد الجد و أول المنضمين لصفوف الثائرين لكسر ثورتهم لتحويلها لصالحهم و يستمرون في حصد المكاسب المعتادة، فلا يهم أن يحققوا هذا من بين يدي الحاكم أو الثائر، فالثورات دائماً ما يشعلها الأحرار، و يتواطأ عليها الجبناء و يحصد خيراتها أشد أعدائها، و تبقى الثورة فكرة و لا تصل أبدا لحالة الكمال، و تبقى الحرية أمل منشود و له الباحثون عنه في كل زمان و مكان مستعدون دائماً لبذل المزيد و المزيد  من الأنفس و الأموال في سبيل تاجهم المنشود  الذي لا يزين إلا رؤوس الأحرار و الشهداء، تاج الحرية.  

  • أحمد كمال نجم الدين
  • القاهرة في:   28/6/2009


2 تعليقات

  1. شكري الروزتلي17 يوليو, 2012 08:34

    سلمت الأيادي.. بااااااهي

    ردحذف
  2. أشكرك أخي مرحبا بك دائما

    ردحذف
أحدث أقدم