عندما يصبح الشيطان رجلاً

goya_saturn

الشارع مزدحم بالناس يمشون بشكل عشوائي، و"نغم" كذلك تمشي محتضنة علبة ملفوفة بورق فضّي وشريطة يتماوج فيها لون أصفر وبرتقالي كلون الغروب الذي يحبّه، الدمعة على رصيف جفنها تمشي أيضاً جيئة وذهاباً كما يمشي ذلك الشرطي الأسود القصير، الدنيا تظهر أمامها كأنها مغموسة في زيت أصفر وهي تقف متأملّة في الهدية تحت موقف الباص الفارغ...‏

ماذا ستفل بطقم المكتب هذا... (أوراق ملوّنة، قلمٌ وكتاب سياسي من النوع الذي يبحث عنه). نصف ساعة أخرى كافية للانتظار...‏

وتحرك الشيطان في الشارع، هنا لعبته حيث الساعون.. الذاهبون والعائدون تركض عيونهم وراء السيقان الملفوفة بجوارب النايلون الشفّافة، إنه الشارع الأكثر ازدحاماً في البلدة، شخص واحد جعلها تزيد من سرعة خطواتها- إنه مازن- دخلت في زقاق ضيق فيه محلات قليلة.. دخلت في أول محل لألعاب الأطفال جعلها تشعر بالراحة والهدوء وتنهدت تنهيدة لم تخرج كلّها من صدرها حتى رأت شيئاً طويلاً كالظل الأسود يقف بجانبها.. أشار لها بيده إلى سلة في الواجهة تحمل كلاباً بيضاء من القطن وقال بصوت مبحوح سمعته من قبل سنين (كلاب جميلة) ولاحقت الإصبع بعينيها حتى وصلت إلى وجهه: شفتان مفتوحتان، وجه نحيل متجهّم، عينان كأنهما حفرتان في قلب صحراء متماوجة الرمال. بماذا يذكّرها هذا الوجه؟... (يذكرني بأوصاف الأشرار الذين قرأت عنهم في صغري). ودون أن ترد عليه تابعت مشيها السريع وصار يطاردها حتى جذب يدها وأوقفها (سلّمي يا فتاة.. الله شاء لنا هذه المصادفة، تصوّري.. اليوم كنت سأسافر) ابتلعت لعابها الأخير وتحولّت الصورة من لون أصفر إلى رمادي.. أرادت أن تبكي بقوة نظرت إلى صورتها في الزجاج، شَعْراً قضت الليل كلّه في جعله مسدولاً كالحرير... واللبن الذي وضعته منذ الصباح برائحته الكريهة، وفستانها الأحمر ورائحة عطر القرنفل، وأهم من هذا كلّه الهدية التي جمّعت ثمنها خلال عام كامل.. كلُّ هذا ذهب هباءً، كانت تفضل أن تكون في تلك اللحظة التي يرمقها بها مازن بشهوة، قبيحةً كجنية تفوح منها رائحة السم القاتل لا مجال للهرب الآن، سينتهي كل شيء بسلام ووئام، مضت أعوام وعدها مازن بالرجوع ومعه ثمن البيت الذي سيجمعهما إلى الأبد كانت وقتها صغيرة إلى حد ما، إنه طيش الدراسة الثانوية ولعبة أولاد الجيران، الشاب المستأجر. شبّاكٌ مقابل الشبّاك.‏

إنه الشخص الأول الذي طرق أوردتها وأيقظ بها الشعور الآخر، (حسناً) قالت بعد أن أحست بغضب عارم قد ملأ صدره.‏

المقصف هادئ، موسيقا هادئة رومانسية، كراسٍ كلّها فارغة لم تملأ بعد فالوقت صباحٌ والمطر بدأ يكركر الغيوم، لم يكن شكله أليفاً بل يبعث على القلق حتّى على الرجال ها هو صاحب المحل يغض بصره عنه اشمئزازاً.‏

نظر مازن ببلاهة إليها دون أن يفهم أية كلمة مما قالت وسألها:‏

-لِمَ تأتيني النساء إلى غرفتي متوسلات؟!. فأجابت بسرعة وعصبية: لأنك طيب وكريم. حينها ابتسم (عملت بنصيحتك يا عزيزتي، هل أطرد امرأة أرملة فقيرة لها طفلة مريضة وطفل كسيح؟! أم هل أقفل بابي في وجه جميلة تغريني في عز الشتاء والبرد هاربة من أهلها... أنا أعطيتهن الكثير، هن وغيرهن، ولم آخذ إلا القليل.‏

-لكنّ نواياك لم تكن للخير، بل لسد جوع الشهوة الشيطانية، المرأة الأرملة ليست إلاّ شاذة مثلك، لم لا تعمل مسّاحة أو عاملة في المطاعم.. أنت كاذب وبالنسبة للمراهقة لو كان عندك ذرة من الخير لأرشدتها إلى الصواب، واللّه أعلم ما فعلت بها.؟‏

وقفت نغم ومدّت يدها مبتسمة بفمها فقط (أودعك بسلام..). بادلها الابتسامة وقال بسخرية:‏

-فراق أبدي بأقل من قبلة لا يجوز.‏

فهمست له:‏

-ساقط.‏

حملت حقيبتها بعصبية، لم تنتبه بأن المقصف قد ازدحم بالهياكل البشرية، ينظرون إليها بتطفل وكأنهم سمعوا كل مادار بينهما من أحاديث.‏

مشت في الطريق الصاعد، الحجر في كل مكان والآليات بصوتها المزعج الذي أخفى صوت لهاثها وحشرجة نفسها، قطعت الشارع دون نظر أو انتباه للسيارات الجائعة لدهس أحدهم لكن مازن كان كالشبح، فلم تكد تصل إلى شارع فارغ حتى رأته بجانبها وصارت تفكر بحيلة للخلاص. وهو يصيح بعصبية (اتبعيني يا بنت ولا تتحامقي). كان يمشي على الرصيف بينما هي في الشارع المليء بالسيارات وراءه. أومأت لسيارة أجرة بكل هدوء وضحكة قوية في صمتها ظهرت في عينيها وهي ترقبه يبحث عنها باستغراب وتساؤل.‏

أحس مازن بأن الأرض قد ابتلعته ثم بصقته مع كتلة من التراب، كاد ينفجر غيظاً. لقد أهانته كثيراً أيرتكب جريمة صغيرة يقضي بعدها لياليه في السجن. هاقد أفلس تماماً، حتى الأصدقاء تخلوا عنه لم يديّنوه قرشاً واحداً في حاجته ومرضه، وهاهي نغم أمله في استمرارية الحياة، نغم مصدر قوته للقضاء على اليأس والفقر، كم خففت عنه، وكم غيّرت من طباعه القاسية الناشئة عن تربية وبيئة فاسدة. لم تسامحه كالسابق، وعملت من الحبّة قبة. أمسك بالعلبة الفضية المنسية على الكرسي وفتحها بعيونه قبل أن يمزقها بيديه ليرى ما تحتويه، أهم شيء فيها تلك الورقة على السطح، فتحها بسرعة وصار يقرأ بصوت مسموع:‏

"عزيزي:‏

هناك شيء واحد أذكره فتعلو جسدي برودة في عز الصيف.. رنين ضحكاتنا، صرخة قلبين للانضمام إلى شيء ما...‏

وهناك شيء واحد يمكن أن أنساه فتعلو جسدي حرارة في قلب الشتاء.. نحيب قلبي قصة حب. ودمعة تسقط في كفك الطاهرة العفيفة.‏

اهتف لي.. فأنا رَغْمَ مدِّي وجذري.. تهدأ موجاتي في لحظة صمت نجلسها معاً.‏

قال كلاماً لا أهمية له ينبعث من شفتين رخوتين، يتغزّل بعينيها وشفتيها وبكل شيء وهي جالسة كالصنم تنظر إلى اللوحة خلف ظهره (ألوان مريحة: برتقالي فاتح وأسود وسماوي تلوّن البحر وتخفي ملامح العاشقين الأسودين.. يدها في يده وورده).‏

لم تسمع كلمة واحدة مما قال كانت تفكر بالقدر الذي يلعب بشخصيات الحياة كمسرحية أبطالها دمىً وإلهها الكاتب يتحكم بمصائرها كما يشاء وفكرت "نغم" وهي تبتلع دموعها بقوة (لِمَ تغيَّر هذا اليوم مائة وثمانين درجةً كما يقال، آخر من أتمنى أن أراه هو أنت؟!.) وفارت دموعها متبعثرة على الطاولة حتى غسلت جفونها وصار اسودادُ الجفن إلى احمرار. أمسك منديلاً ومسح وجهها، لكنها أمسكت بيده بقسوة وأخفضتها.‏

(كم صرتِ قاسية يا نغم).. ولم تلق حجة سوى أن تقول:‏

-تأتيني بعد غياب طويل خاليَ اليدين لا تملك ثمن هذا العصير.. انظر إلى نفسك، كلك أخطاء وفوق هذا إصبع مقصوصة.. لاتقل لي من العمل في المطعم فأنا رغم صغر بؤبؤك أعرف ما يضمر قلبك.‏

قاطعها مازن متصنّعاً غصة في صوته:‏

-تهجَّم عليَّ أحد الشبان المدعومين، أردت أن أقطعّه بالسكين التي كانت على طاولته ولكني كما تعرفين بارد الأعصاب، حسبتُها جيداً، أنا وحيد مقطوع من شجرة فما مصيري إن صرت في السجن وطردت من العمل، ما كان مني بعد هذا إلاّ أن أقطع إصبعي في محاولة للانتحار. وسال الدم كالشلاّل. وخلع من جيبه علبة تبغ فيها حبوب من الدواء بعد أن انتهى من حديثه. نظرت نغم في وجهه نظرة تساؤل غير مصدقة كلمة مما قال فهو مشاكس شرير حاولت أن تغيّره فلم تفلح، أنهت تعليمها في معهد الفنون وصارت مدّرسة محبوبة وملتزمة.‏

-هناك مشكلة يا نغم سأنهيها وأتفرغ لك.‏

تجادلا طويلاً حول تلك المشكلة حتى شعرت نغم بعصبية ظاهرة، جهزّت نفسها لتدعه على الطاولة الصغيرة يلفُّه الدُخان من لفافة تبغه، من النوع الرخيص.‏

-يا رجل، ليتك كنت شيطاناً لكنك أكثر منه قساوة، فالشيطان عندما نحبّه يقدم لنا السعادة المحرّمة، وأنا أحببتك فلم أجد لا سعادة محلّلة ولا محرّمة، ارحمني دعني وشأني.‏

ضرب بقبضته على الطاولة. وصار يشرح لها باستعطاف كيف أتته تلك البنت الصغيرة هاربة من أهلها وما كان منه إلا أن سفرّها معه إلى اللاذقية لمدة شهر كامل. ثم فجأة شعت من عينه تلك النظرة الشريرة‏

(الجميع يخافني ويرفضني، حتى أهلك رفضوني، مجتمع لا مكان فيه للعواطف). حينها قاطعته نغم:‏

-وكيف نعيد ماكان؟ الثلج يطفئ حر الصيف..‏

ثم استأنف بسخرية (الحب؟!) وضحكت لكن الدموع كذّبت تلك الضحكة المصطنعة.‏

-معكِ حق الوردة لا تتسع لأكثر من نحلة، والرحم يحمل طفلاً واحداً أكثر الأحيان.‏

-أنت لم تحبني أبداً. أقسم. هاقد ضاع كل شيء، سنين تقتل المشاعر لأن للفراق عمراً يبرّد المشاعر الزائفة.‏

قل لي بربك: كم مرة قلنا: هذا آخر فنجان قهوة نحتسيه معاً وتلك آخر كأس عصير؟ ابتلع الكلمات الأخيرة، غصة أسكتته. عثكل الورقة ورماها بقوة على الأرض (أين هي الخائنة؟).‏

نستني.. لم تعد تحبنـ...ـي) وصرخ كالمجنون‏

(ومن يحبني في هذا العالم حتى اللّه في العالم الآخر.. لمن أعيش.. ولمَ.. وكيف..؟).‏

وصل إلى الحارة، العصافير على أسلاك الكهرباء لم تهدأ من غضبه.. الهدية في يده كالقنبلة الموقوتة‏

(أهلها في القرية يقطفون الزيتون) صعد الدرجات الكثيرة والغيرة تحتّ بصدره أخذ شمّة من البودرة وصار يبكي ويرتجف كطفل محموم. طرق الباب بهدوء ثم غطّى (العين الساحرة) بإصبعه. عرفت نغم أنها نسيت العلبة على الكرسي المجاور (أتراه وجدها؟) فتحت نغم الباب وهي تبتسم (إنها ريتا.. خفيفة الظل). وصعقت لمّا رأته، مسح أنفه الأحمر وأغلق الباب وراءه. لم تقو قدماها على حملها كادت تسقط لولا أنه شدَّها وهو يضع يده على رقبتها الطويلة الساخنة (استخسرت عليّ قبلة.. دقائق وينتهي كل شيء) صرخت بقوة.. لم يجب أحد، فصوت آليات الفرن في الأسفل تُصمّ الآذان عن الأصوات الضعيفة. أغلق الباب وراءه بهدوء كما جاء، نزل الدرجات، سلَّم على السمّان في أول الشارع ثم كرع زجاجةً من البيرة وهو ينظر إلى شبّاكها البعيد، يضحك ضحكات شيطانية أرعشت صاحب الدكان وأخافته فبادله الضحكة بابتسامة مصطنعة.!!‏

ثم اختفى مازن من الحارة إلى الأبد وكأنه لم يرتكب أية جريمة.!!‏

  • منال فياض
  • من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999

إرسال تعليق

أحدث أقدم