تقتحمين السبعين كأرملة بكل كبرياء و بقايا جمال على وجهك الرصين المتحفز .
وفي غرفتك الاحتفالية المصنوعة من خشب الزان الثقيل تعلقين صور أيقونات لقديسين لا تملين من سرد حكاياهم وقصص توبتهم . وفي جارور قرب سريرك تخبئين نشرات " الكنيسة " التي تجلبيها معك كل احد بعد القداس وتطلبين مني قراءتها مشيرة باصبعك الى مقطع بعينه . أعرف حينها أنك تريدين إيصال رسالة معينة لي . لستِ مؤمنة متقاعدة ولا حتى تلهيك هذه الأشياء في البحث ساعات عن خاتم يليق بالقميص أو حذاء يناسب لون المعطف ، ولا حتى يبعثر انتباهك خبر، مهما كان عظيماً، عن انتقاد الخادمة لعدم إرجاع التحف الى مكانها بعد تنظيف الغبار . ارستقراطية الطبع ومع ذلك " أنا أم الفقراء يدعوني " كما تصرين على ذلك في كل مرة . أعرف من أين أتى هذا " النموذج الإنساني " الذي تتمسكين به إذ لطالما حدثتني عن نساء من طبقات اجتماعية عليا تمسكوا بالزهد والأعمال الخيرية . يفتنك صاحب السلطة المتواضع، تعتبرين ذلك قمة في النضج الشخصي، لكني حينما أقوم أنا بهذا تخافين وتطلبين مني التماسك وعدم " التفريط ببرستيجك هكذا " كما تقولين .
أعرف إنك لا تحبين الإسفاف أو الميوعة ولا تتقنيها لدرجة أدهش في كل مرة حين أراك تصافحين رجل برؤوس أصابعك بينما تمدين يدك على طولها تاركة مسافة متر على الأقل بينكما . مع ذلك فأنت تصرين على إني أعزل نفسي ضمن جدران الكتب وإني لن أعثر على " أحد " من أجل رفقة آخر العمر. تطلبين مني أن أحضر مناسبات الأسواق الخيرية السنوية التي تشاركين فيها كبائعة ومشرفة في صالات الكنيسة . وهناك ، تستقبلني حيوية بنات صديقاتك في كل مكان يوزعن الابتسامات واللطف والمساعدة على الزائرين ..تتطلعين بي وبلباسي حالما ادخل ..تعرفين بلمح البصر أن هذا ليس مكاني ومع ذلك تناديني " تعالي حبيبتي .. أريد ان أعرفك على ..." ، صديقة اخرى ابنها يمكن أن يكون عريسا محتملاً لي .
محاولاتك الفاشلة المليئة بالحب لا تقدر على اقتحام عالمي و لا على تقديم ما يكفي من الإغراء لعقلي الذي يسبح في أفق آخر و لا لقلبي الانتقائي الذي تعبت من أجل الحفاظ على براءته والذي تريدين ترويضه بدفعي إلى تقبيل يد " أبونا " أو الاقتناع بمقدرة الزيت المقدس على الشفاء . لستُ ملحدة ولكني أؤمن بطريقة مختلفة وعلاقتي بالله لا يمكن أن توافقي عليها .
وحين تقضين قيلولاتك في تذكر عيوب الماضي والفرص الجميلة التي أضاعها الزواج المبكر والحديث المتكرر عن أنك لم " تزعجي أمك بكلمة واحدة طوال حياتك " ، أدرك إنني المقصودة بذلك بينما يكون عقلي الصامت مرتاحا في الضفة الاخرى للعيش .
إنه عالمك الذي لا تشذين عن خطواته قيد أنملة ، عالم مطمئن ، لامتغير ، ساكن ، احتفالي ، أبدي لا يزعزعه شيء إلا الموت غير المقبول للأحباء أو الاختفاء غيرالمفهوم للآخرين وعواطفهم .
وفجأة ، يتعرض الوطن لأكبر طعنة . يتبلبل هذا الاطمئنان المخملي ، وتتبعثر هذه الاهتمامات الصغيرة التي ظننتها خالدة، و يلعلع صوت الرصاص فوقها وتحتها وعبرها مخترقا موسيقى السكون حولك . تسمعين عن رجال ملتحين وآخرين ملثمين يقتحمون الأماكن و ينشرون الذعر ويغتصبون وينهبون ..تسأليني إن كان كل هذا يحدث في سوريا ! أين ؟ هنا ؟ عندنا ؟ تسألين باستغراب و دهشة وكأن ذاكرة الماضي القريب قد ماتت أو فُقدت . تتطلعين حولك في منزل العائلة الذي بنيته تحفة تحفة ومزهرية مزهرية وشرشفاً شرشفاً وطبخة طبخة و تفكرين في توضيب حقيبة صغيرة للطوارىء ثم تجلسين في زاوية و تبكين على سوريا .. " فين بدنا نروح .. انا ما بقدر عيش بأي محل تاني " كأن عالمك الناعم المستقر قد اهتز من جذور جذوره وبدت علائم عدم التصديق على عينيك اللتين تتطلعان من خلف نظارتك الطبية بهذا الكون الصغير الذي ظننته غير قابل للزوال ..." ضيعان سورية ..ليه هيك عم يعملوا " ..أسئلة كثيرة أبقى صامتة حيالها ..هم كبير يجثم على صدرينا ، قلق مشترك بدأ يوحد أفكارنا ويجعلنا نفقد القدرة على الاحساس بأي سعادة أو هبة فرح .
" لا تلبسي ثيابك من دون اكمام بعد الآن .." هكذا تهذرين من وقت لآخر ومن دون مقدمات ...الله وحده يعلم ما يجول في خاطرك وأنت تتطلعين من وراء النافذة الى سيارات الإسعاف المسرعة باتجاه المشفى العسكري القريب . أراك منكمشة على نفسك في روب الجوخ الكحلي السميك وقد عقدت كفيك في حضنك و تغضنت جبهتك . اشفق عليك .. اشفق عليك الى حد البكاء بصوت مرتفع...يريدونك أن تتنازلي عن حريتك إذاً ، أن توقفي شغفك في اليوميات الصغيرة الجميلة ، يريدونك أن ترمي أغطية الكروشيه وأن تخافي الخروج من البيت ، يريدونك أن تقضي في شيخوختك متحسرة على " أجمل مكان على الاطلاق على سطح الارض " كما تسمي سوريا ، وأن تتخلي عن أمثالك الكثيرة التي ما فتئت تردديها امامي " صفي النية و نامي بالبرية " ككقاعدة فلسفية بسيطة سرت عليها طوال حياتك . يريدونك أن تبدأي بالسؤال المقرف عن طائفة هذه المرأة ودين ذاك الرجل وملة هذا المار من هناك و الذي " رأيته بعيني يرمي بشيء في حاوية الزبالة ". يريدونك أن تموتي مفتوحة العينين وأنت ترين سقوط أولادك الواحد تلو الآخر برصاص الغريب والقريب والحبيب . وحين قلت لك إنها الثورة يا أمي ، تراجعت كقط مذعور وأخذت تسأليني كيف يمكن للثورة أن تذبح الإبن و الأب و تغتصب الإبنة والأم ، كيف يمكن لها توصد الأبواب أمام السياحة في البلد و تدمر الليرة وتغلق آلاف الورش الصغيرة وتسرح عشرات الالاف من العمال . كيف يمكن لهذه الثورة أن توقف عمليات التدريس في الجامعات والمدارس بسبب جنون ( الآربيجيه ) والقنابل الموقوتة ، وكيف تبدل من أدبيات السوري الذي لم يكن يسأل أخيه ما هو دينك ليتحول إلى مهووس بالسؤال عن الطائفة ؟؟؟؟.
كنت تقولين لي إن سوريا أم الفقير فكيف تحولها الثورة إلى متسول للمساعدات الإنسانية و مخيمات للاجئين ، وكيف تنسى الثورة كارثة فلسطين وتفتت السودان وليبيا وفوضى مصر واليمن وانحراف تونس . تسألينني بالحاح المكسور المقهور وقد فاضت ذاكرتك المتألمة بكل هذه الأسئلة وأكثر، وإذ لم أجد جوابا على كل هذا يفي كلمة " الثورة " الجميلة حقها ويدافع عنها ، فضلت أن ألوذ بالصمت وقد فاضت روحي بهذا القلق الذي لا آخر له .
- كلاديس مطر
- www.gladysmatar.net
أديبة وباحثة وروائية سورية
مدونة مميزة ... بموضوعاتها المتنوعة :)
ردحذف