بشر لا يجدون من يرعاهم ..!!

181344

نسمع ونقرأ بين الحين والأخر مجموعة من الأخبار عن فئة نسيها الناس في بلادنا فتحولت إلى ما يشبه آفة في المجتمع. مدمن مخدرات يذبح طفلا أمام أسرته ويطعن عمه بالرياض، إعلامي ينتحر بسبب مرض نفسي بالسعودية، مريض نفسي يحاول الانتحار قفزاً من طائرة "السعودية"، إحباط محاولة انتحار مواطن سعودي أمام ديوان المظالم بجدة، انتحار مواطن سعودي أشعل النار في نفسه بمنطقة تبوك، مريض نفسي يلجأ إلى حقوق الإنسان لإنصافه من مستشفى حكومي. هذه عينة لعناوين نطالعها بشكل متزايد في الآونة الأخيرة على صفحات الجرائد المحلية. وهذه هي الحالات التي تنشر، أما ما لا ينشر فهو كثير. وقد تحتل مثل هذه الأخبار في المستقبل مزيدا من المساحة في جرائدنا التي تفرد لأخبار المجتمع، خاصة وقد أصبحنا نعيش في عصر أبرز ما يميزه وجود صراع داخلي لدى الفرد سببه ربما تقنية الاتصال ونشر المعلومة والانفجار المعرفي الذي أدى إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات.إن هذه الأخبار المتزايدة عن المرضى النفسيين تضعنا في مواجهة حقيقة وظاهرة قد تتفاقم في المستقبل دون أن نعيرها ما تستحق من الاهتمام.
وقد أصبحنا في الآونة الأخيرة نشاهد هؤلاء المرضى النفسيين والعقليين، وكذلك مدمني المخدرات الذين دمرت السموم عقولهم، في بعض الطرقات وفي بعض الأماكن العامة بملابسهم الرثة والممزقة في مناظر تدمي القلوب وفي وضع إنساني مؤلم. وللأسف الشديد لا توجد في السعودية إحصائيات رسمية دقيقة ومفصلة عن عدد المصابين بالأمراض النفسية والعقلية يمكن للباحث أن يستعين بها لتقدير حجم الظاهرة. وحينما حاولت الحصول على معلومات عن عدد المرضى النفسيين في المملكة من موقع الجمعية السعودية للطب النفسي وجدت العبارة التالية "تم إيقاف الموقع لعدم دفع المستحقات"!.
وأنا هنا أطرح سؤال هاما وحيويا وهو ما هو مستوى الرعاية المتاحة للمريض النفسي في بلادنا؟ وما هي حقوق المريض النفسي والعقلي في السعودية؟ وهل يوجد قانون يحمي حقوقهم أو جهات تدافع عنهم ؟ وهل التأمين الطبي يغطي العلاج النفسي؟ ليس من الصعب القول أن الرعاية النفسية التي تقدم للمرضى النفسيين في بلادنا ليست في مستوى جيد. ويبدو أن حق المريض في الحصول على حقوقه في العلاج والحصول على سرير يحتاج لمعجزات، أقول هذا بعد أن عرفت أن عدد المستشفيات الخاصة بالصحة النفسية ومعالجة الإدمان في كل المملكة هي 20 فقط بين مستشفى ومركز وعيادة، وأن سعتها هي 2811 سريرا. ويوجد من بينها ثلاثة مراكز متخصصة لعلاج الإدمان. كما توجد 94 ما بين عيادة نفسية وعيادة معالجة الإدمان ملحقة بالمستشفيات العامة. ويبلغ عدد القوى العاملة فيها حسب التخصص 627 طبيبا نفسيا و406 أخصائيين نفسيين و 724 أخصائيا اجتماعيا و 3025 ممرضا حسب المعلومات المستقاة من وزارة الصحة، وهذا عدد غير كافي في دولة عدد سكانها 27 مليون نسمة. وحتى مع خطة وزارة الصحة الجديدة لمضاعفة عدد أسرَّة علاج الأمراض النفسية والإدمان إلى 4150 وإنشاء 16 مستشفى نفسي للصحة النفسية ومعالجة الإدمان والمقرر لها أن تحتوي على 200 إلى 500 سرير لكل مستشفى تبقى المشكلة قائمة وبلا حلول جذرية. ولو أخذنا العاصمة الرياض على سبيل المثال فقد اعتمدت وزارة الصحة لها ميزانية هي 350 مليون هذه السنة لإنشاء مستشفى للصحة النفسية ومعالجة الإدمان بسعة 500 سرير، ليكون رديفا لمجمع الأمل و الصحة النفسية الحالي، وليرتفع عدد الأسرَّة المخصصة للصحة النفسية بمدينة الرياض إلى 1000 سرير. وهذا يدفعني للسؤال: هل 500 أو 1000 سرير عدد كافي لخدمة المرضى النفسيين والعقلين في مدينة كمدينة الرياض يبلغ عدد سكانها 4.9 مليون نسمة؟ كما أن صرف هذا المبلغ الكبير على مستشفى واحد يطرح تساؤلات كثيرة. ويمكن القول أن المؤسسات العلاجية القائمة والمخطط لها ليست كافية.
ولا تقدم المؤسسات القائمة خدمات علاجية لهذه الفئة من المرضى على مستوى جيد، فقد قمت بزيارة لبعض منها قبل كتابة هذا المقال، فوجدت أن المريض يعامل بطريقة غير جيدة، كما أن الاعتماد الكلي في المعالجة هو على المعالجة الكيمائية chemo-therapy، ولا تستخدم الطرق الأخرى كالعلاج لإدراكي cognitive therapy والتنويم المغناطيسي والعلاج الروحي والعلاج بالروائح والعلاج بالمرح، وغيرها. والمستشفيات والعيادات القائمة لا تفي بالغرض ولا تقوم بدورها كما يجب مع المريض ولا مع عائلته من حيث التوجيه وغيره. وفي حالة رفض المريض تناول العلاج يبقى الأهل حائرين، كما أنه في حال تفاقم مرضه لا تقوم هذه المؤسسات بإيجاد مأوى له. ومن الملاحظ أن معظم المستشفيات تدعي عدم وجود سرير شاغر للمريض، وحينما تظهر الواسطة يقوم المسئول بفرك الفانوس السحري ليظهر السرير! ويضطر الناس الذين لديهم مريض نفسي للانتظار لأشهر للحصول على مواعيد للعلاج. يقول أحد الأطباء النفسين ساخرا مما يحدث في المستشفيات من إهمال للمرضى وتباعد في المواعيد إن كنت مريضا فقيرا وليست لديك واسطة فلما تمرض ؟..وكأن المرض خيار شخصي أو امتياز لطبقة دون أخرى.
والشعور بالتعجب والصدمة لا ينتهي عند هذا الحد، خاصة حينما نكتشف أن التأمين الطبي لا يشمل العلاج النفسي. وهذا فيه تجاهل واضح وصريح لحقوق المريض النفسي التي نصت عليها مبادئ الأمم المتحدة وتجاهل لحقيقة زيادة معدلات الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية في مجتمعات العالم كما تظهر إحصاءات الأمم المتحدة. تشير تلك الإحصاءات أن أعداد المرضى النفسيين في العالم صار يشكل نسبة بين 25- 30% من سكان إي دولة في العالم، بعد الأزمة المالية العالمية التي تسببت في زيادة معدلات الفقر والبطالة، وتسببت في زيادة نسبة الإصابة بالأمراض النفسية بشكل عام، ونتوقع أن ينطبق هذا على بلادنا. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية أن معدلات الإصابة بالأمراض النفسية في تزايد مضطرد، وأنها أصبحت تشكل أكثر من 14% من جملة الأمراض المنتشرة في العالم كله، وأن ما يقرب من مليون مريض نفسي يموت سنويا منتحرا.
والمرض النفسي "العصاب" والمرض العقلي "الذهان " ينظر لهما في مجتمعنا نظرة قاصرة مليئة بالخرافة والجهل. فالمرض النفسي والعقلي في تفكير الكثيرين يمثل وصمة عار، تحاول بعض الأسر جاهدة التكتم عليه حتى لا يعلم به المحيطون. ومرد هذا الخوف أن الناس لو علموا أن هذه الأسرة أو تلك لديها مريض نفسي، أدى ذلك لقطع رزق بناتهم أو أبنائهم، وحرمهم من الزواج. لذا تدعي الأسرة التي لديها مريض نفسي أن أبنهم أو بنتهم المريضة مصاب أو مصابة بالسحر أو العين! وتسعى أسرة المريض النفسي نتيجة لهذا التفسير الخاطئ إلى أخذ المريض إلى المعالجين الشعبيين، فتراهم يترددون من بيت معالج لأخر أملا في شفاء الابن أو البنت، وقد يمتد الحال بهم لسنوات. وهكذا يبقى المريض بلا علاج فعال، نتيجة لنقص الوعي ولثقافة العار المنتشرة لدى الكثيرون. وقد يحبس المريض في المنزل لسنوات طويلة لا يسمح له بالخروج بسبب جهل الأسرة وعدم معرفتها بطبيعة المرض وكيفية التعامل مع المريض وإمكانية علاجه وشفائه مما أصابه. فالمرض النفسي مثله مثل الأمراض العضوية يمكن علاجه والشفاء منه. لذا يتعين أيجاد برامج تثقيفية للأهالي حتى يعرف الناس طرق التعامل مع المريض النفسي وطرق علاجه.
وقد تتدهور في النهاية صحة المريض وتسوء حالته مما قد يدفعه للقيام بسلوك عدواني والتعرض للغير بالإيذاء الجسدي أو اللفظي أو ارتكاب جرائم كالتي ذكرنا عينة مما نشر منها بالصحف المحلية. أي أنه قد يتحول المريض إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه المجتمع في أي لحظة بسبب سؤ الفهم والجهل بطبيعة الأمراض النفسية والعقلية وكيفية مواجهتها. ويزيد الأمر سؤ أنه يوجد من المرضى من تتخلى عنه أسرته أو المستشفى نتيجة عدم القدرة على السيطرة عليه أو عدم وجود سرير شاغر له. فيبقون هائمين في الشوارع، يفترشون الأرصفة أو يسكنون الحدائق العامة ويجوبون الطرقات، الأرض فراشهم والسماء لحافهم مشردين ومنبوذين حتى من عائلتهم. وقد يتعرض المريض بسبب بقائه دون مأوى لخطر حوادث السيارات أو الاستغلال من قبل ضعاف النفوس خاصة مروجي المخدرات.
إن أوضاع المرضى النفسيين بائسة في مجتمعنا، وأنا هنا أوجه نداء حارا لوزارة الصحة والمسئولين بها ليعيدوا النظر في مستوى الرعاية الصحية التي تقدم للمرضى النفسيين، ويعملوا على أنشاء مرافق صحية متكاملة تقدم خدمات تساعد في معالجة المرضى بطرق فعالة وغير تقليدية. كما أن عليهم أن يذللوا العقبات أمام المرضى، فالمريض النفسي والعقلي لديه ما يكفيه من معاناة. ومن حق المريض النفسي أن يجد العلاج المناسب والرعاية اللائقة والحصول على سرير عند الحاجة لرعاية مكثفة. وأن تحرص الوزارة على تأهيل العاملين في المجال الطبي والنفسي في كيفية التعامل مع المرضى النفسيين ومراعاة حقوقهم التي كفلها إعلان الأمم المتحدة الصادر في عام 1991 ومعاملتهم معاملة إنسانية. كما يتعين على الوزارة زيادة عدد العاملين في المجال النفسي سواء من أطباء أو أخصائيين نفسيين أو اجتماعين، مع الحرص على تدريبهم تدريب جيدا والاهتمام بتنوع أساليب العلاج دون التركيز على العقاقير النفسية وإهمال بقية طرق العلاج. كما ينبغي أن تقوم الوزارة بتوزيع المستشفيات النفسية بشكل عادل بين مناطق المملكة ودون إغفال للمدن الصغيرة وسكانها. وعلى الوزارة في حال تعذر علاج المريض في المستشفيات العامة أن تدفع تكلفة علاجه في المستشفيات والعيادات الخاصة. كما أهيب بوزارة الصحة أن تبني مستشفيات لا تكون مكلفة، فلا ينبغي الحرص على فخامة المباني وغرف الموظفين لتصبح كالفنادق، فالمهم مستوى الرعاية والعلاج الذين يقدمان للمرضى، فالجوهر هو المهم لا المظهر.

إرسال تعليق

أحدث أقدم