" السجعانية " مملكتي ومسقط هامتي ، من ترابها نبتّ ، وفي أحضان أشجارها وخضرتها ترعرعت .
بلادنا أعظم البلاد ، ويشهد بذلك كل العباد ، على أرضنا درج الصالحون والأولياء ، فذاع صيتنا في الأرض والسماء .
وبإمكان المهتمين بتاريخ مملكتنا ، أن يبحروا في سفر " الحقائق النورانية في تاريخ السجعانية " لمؤلفه العالم العلاّمة ، والأديب الفهّامة الشيخ :" اسحاق صفوت باشا الأوراقي " ليقفوا على صحة ما نقول .
ومن شاء الاستزادة ، فليقرأ في باب "السين" أهم المذاهب والآراء ، في تسمية السجعانية الغرّاء :
" السجعانية " نسبةً إلى مؤسسها : "سجّاع بن سجعان" ، الذي قهر ذات حقبة جحافل الرومان، وردّهم على أعقابهم يجرّون أذيال العار والخذلان.
ويرى فريق آخر أنها سميت بذلك لاشتهار أهلها بالسجع ، الذي توارثوه أباً عن جد ، فتمايزوا بذلك عن سائر البلدان ، وجرى السجع على كل لسان .
ويرى آخرون أن السجعانية جاءت من مزج كلمتي " سَجْد غانية " ، ويذهبون إلى أن البلاد عرفت قديماً غانيةً، هزّت بخصرها أركان البلاد، وفتنت بإغرائها النسّاك والزهّاد .
والغريب في أمرها أنها كانت تسجد للآلهة كل ليلة سجدة واحدة ، منذ الفجر وحتى بزوغ الشمس ، تكفيراً عمّا ارتكبته في الليل من آثام وذنوب .
ولكننا نرجح ـ والقول هنا للشيخ الأوراقي -أن هذا المذهب ضعيف ، لعدم ثبوت الأدلة التاريخية ، والبراهين والأسـانيد القوية .
ولعل كثرة الذرّيّة والإنجاب هي من أهم ما يميز مملكتنا ، ولذلك فإن الأفكار المستوردة حول منع الحمل وتنظيم النسل ، والتي نادى بها "عارف مفتوح العينين "، لم تجد سبيلها إلينا ، بل بقيت في دائرة النسيان والاستهجان.
وكان طبيعياً أن تتكاثر الأعمال والولايات؛ فهذه ولاية " الشــعرانية " ، ومعظم أهلها شعراء من ظهر شعراء ، والطفل منذ أن يفتح فمه يرتجل شعراً موزوناً مقفّىً ، يليق أن يكتب بماء الذهب .
وهذه ولاية " المســرحانية " ، حيث يتفرّد أهلها بعشقهم للمسرح ، وبراعتهم في التمثيل ، فتجد الواحد منهم يؤلف المسرحية ويمثلها ويخرجها بمفرده .
وهناك ولايات : الموســيقاتية ، والقهواتيــة ، والبهلوانيــة .. .. وحول مشارف المملكة صرنا نسمع عن نهوض ممالك مستقلة مثل: الطبّالـة ، والزمّـارة ، والدّباكــة .. تشمخ بقصورها فوق العيون، وتقول للزمان : "كن فيكون" .
وهكذا لم يعد لاسم " السـجعانية " ورود إلا في البيانات الحكومية المركزية ، وصار بمقدور بضعة بيوت وأحياء ، أن تؤمر عليها من يسوسها ، ويحدد أهدافها واستراتيجيتها، ويقرر إن كان ممكناً التعاون مع الجار الأيمن أو الأيســر ، و الذي فوق، أو الذي تحت .
* * *
.. وقريباً من تخومنا الخضراء ، حطّت قبيلةٌ من الأغراب، نصبت خيامها ، وأضرمت نيرانها، وأطلقت للمرعى دوابها .
ولأن الجميع كان منشغلاً برسم الحدود ، فإن أحداً لم يحرك ساكناً ، وربما لم يصل خبر هؤلاء الأغراب مسامع رعاية " المنبر السامي " الذي كان يحتفل بزواجه الخامس والعشرين.
وأول تصريح رسمي صدر عن ديوان رعايته بشأن قبيلة "الأغراب" ، كان عقب قضية الصبية السمراء : مريم ابنة الحجة أمّون ، والتي كانت تعرف باسم " مريم سكر زيادة " ، لما وهبها الله من حلاوة الوجه ، وعذوبة الحديث ، بحيث تستطيع الصبية برمشة عين أن تدوّخ أكبر شارب!!
.. وكان أحد الشباب الأغراب قد فقد مسمار أمانه ، حين وقع بصره على الصبية مريم ، فهجم عليها ينشد الوصال ، فقامت الدنيا ولم تقعد !!
تحدث رعاية " المنبر السامي " لرئيس قبيلة الأغراب بنبرة كما الشرر :
" لو لم تكونوا ضيوفنا ، وطلبتم حقّ اللجوء السياسي إلى ديارنا ، لعرفنا كيف نؤدبكم ، قد نتسامح بالمال والحلال وشيء من الأرض، ولكن كل شيء إلا الشرف والعرض " !!
نكّس الأغراب رؤوسهم ، وقبّل المتّهم الأرض تحت قدمي رعايته ناشداً الصفح والغفران.
ويروى أن قلب المنبر السامي قد رقّ للمتهم، متفهّماً دوافعه ومقاصده ، ولذا فها هو يصرف النظر عن قطع رأسه كما تقضي الدساتير ، مكتفياً باسترقاقه وسبيه مدى الحياة!!
ولم يستطع أحد من الورّاقين أن يشير إلى أن الشاب كان يفوق الحسن حسناً ، ويبزّ النساء دلالاً وظرفاً ، وأن رعايته أحبّه ، وقرّبه من مجلسه ، وكان يستدعيه إلى خلوته بعيد منتصف الليل ، فلا يغادر إلا مع خيـوط الفجر ، مثقل الرأس ، مهدود الجـسد ، تسنده أعمدة القصر !!
* * *
الأغراب ما عادوا أغراباً ، عاشرناهم وعاشرونا ، منحناهم صدور بيوتنا ، وخضرة بساتيننا ، كنا كراماً من نسل كرام ...
وكانوا كذلك وأسخى ؛ قدموا لنا نساءهم مع لفافات التبغ والحشيش ، وحملوا إلينا عذاراهم ، فمنحناهنَّ فحولةً لم يشهد التاريخ لها مثيلاً ، فأخصبت الأرض والأرحام ، واختلطت الحقائق بالأوهام.
فعلنا مع جيراننا كل ما يخطر في بال إلا الزواج !! فقد وجب علينا أن نلتزم بتعاليم "قبة الإفتاء " التي قضت بعد مناقشات ومساجلات، أن الاختلاط والمعاشرة جائزتان على اعتبار أنهن في حكم سبايا الحروب، أما الزواج فباطل ومردود . وجاء في نص الفتوى:
" لا يحلّ الزواج من نساء هذه القبيلة، لأن مذهبنا غير مذهبهم ، ومذهبهم غير مذهبنا"!!
وقد لوحظ أن هذه الفتوى لم تثر حفيظة الأغراب ، فجاء رئيسهم يحمل للمنبر السامي ، صناديق الذهب والفضة ، وخوابي الخمرة الخالية من الكحول ، وبصحبته اثنتا عشرة صبيّةً من حور الأرض وعينها ، ليعملن على راحة مولانا، أدام الله ظله.
ولم تمض أيام حتى تزوج رعايته من "أسمهان جارة القمر " ، والتي لقبت بذلك اعترافاً بفتنتها وسحرها، وأشيع في أرجاء البلاد أن أسمهان ، ابنة الثلاثة عشر ربيعاً ، قد أشهرت إسلامها تحت قبة الإفتاء ، وصار اسمها " إسلام هان / جارة القمر " ، وسوف يأتي زمان بعيد ، يسوّق فيه هذا الاسم الجميل ، ليطلق على الساحات والفنادق ، وربما المسلسلات والبرامج المتلفزة!!
واسـتوجب ذلك الزواج الميمون ، أن تسـتصدر قبة الإفتاء فتوىً تجيز الزواج ممن تعلن إسلامها من نساء قبيلة الأحباب ، وفي حدود ما يخدم أمن "السجعانية".
ونظراً للمستجدات الراهنة ، فقد ارتأى رعاية المنبر السامي ، أن يتولى مسألة أمن قبيلة الأحباب ، ويشرف عليها بنفسه ، مؤكداً أنه سيبقى الساهر على راحة شعبه، والراعي الأمين لمصالحه " وكل راعٍ مسؤول عن
رعيته" !!
وهكذا كان مولانا ـ حفظه الله ـ ترافقه ثلّة من كبار الوجهاء والأعيان ، يقصدون مضارب قبيلة الأحباب، حين يرخي الليل أستاره ، يتابعون مهامهم الوطنية والأمنية على أكمل وجه، وأكمل قفا !!
وقد حملت ألسنة الظلام أن رعايته والحاشية الموقرة، يجتاحون نساء قبيلة الأحباب في عقر دارهن ، وتمتد موائد الفجور حتى الصباحات الباكرة ، وكان رئيس القبيلة الراعي لحفلات العُهدِ الفريدة ، يسترخي على عرشه المزخرف بنفائس العاج والمرجان ، والذي يعلوه قرنا ثور عظيم من الذهب الخالص . ويبدو أن أول من أطلق عبارة "أبو قرون " هم أهل السجعانية ، ويقصدون بها رئيس وزعماء قبيلة الأغراب الذين طارت النخوة من رؤوسهم .
* * *
فجأةً ، تمّ استدعاء الشاب " عارف مفتوح العينين" إلى أروقة وسراديب "جمعية الأخلاق المجيدة والفِعال الرشيدة " ، وذلك للتحقيق معه حول التهم المنسوبة إليه ، والتي تهدد أمن الدولة مباشرة ، وقد واجه مفتوح العنين تهمة الترويج الكاذب عن فساد المنبر السامي وحاشيته .
وبعد ثلاثة أيام من التحقيق المتواصل ، قام مدّعـي الجمعية العام بالإفـراج عن مفتوح العينين ، بعد تبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه.
* * *
جاء مصرع " عارف مفتوح العينين " بعد أسبوع من الإفراج عنه ، ليثير الفزع ، ويبثّ الهلع؛ فقد شوهدت جثة الشاب تطفو على سطح النهر ، بعد أن انتفخت، وجرفتها السيول بعيداً .
وأكد تقرير المجلس الطبي الاستشاري الأعلى ، أن مفتوح العينين ، قد ألقى بنفسه في النهر منتحراً، بعد أن كبّل يديه ورجليه بالأغلال الحديدية، وأنه يستبعد أية شبهة جنائية أو إرهابية تكون قد لحقت بمفتوح العينين.
وأوضح اختصاصي القصر النفسي والاجتماعي ، أن المأسوف على شبابه ، قد أقدم على الانتحار يأساً وحزناً، نتيجة لما كان يعانيه من إخفاق عاطفي ، وانطواء نفسي وعصابي .
لكن كلاماً كثيراً تردد في الخفاء ، أن مفتوح العينين قد لقي مصرعه على أيدي مباحث القصر السريين ، الذين قاموا بتصفية الشاب المثقف بمنتهى الحرفية والبراعة !!
كما نقلت بعض النسوة أن عارفاً كان يهيم بحب الصبية " مريم سكر زيادة " ، و أنهما تواعدا على الزواج، وحين بلغها نبأ مصرع حبيبها ولولت ، وقطّعت شعرها بيديها ، وهي تصرخ بأعلى صوتها:
- " قتلوه أولاد الحرام .. فعلوها الكلاب " !!
لكن خالتها أسرعت ، وسدّت فمها ، وهي تقول لها :
- " استرينا .. الله يسترعليك " .
لكن أغرب ما في قضية الشاب القتيل ، أن عينيه بقيتا مفتوحتين رغم موته ، مما أثار فزع التربي الذي حكى لزوجته:
" صدقيني يا بنت الحلال ، كنت أغمض له عينيه ، وأدير وجهه صوب القبلة ، لكنه لا يلبث أن يفتح عينيه من جديد ، لكأنه لا يريد أن يموت ، عارف لم ينتحر، رأيت آثار أظافرهم على عنقه ، وكدماتهم في وجهه ، لقد قتلوه يا امرأة " .
ثم يصحو التربي من سكرته و يهمس :
" أعوذ بالله الحيطان لها آذان ، ولها فم ولسان، لا تصدقيني يا بنت الحلال ، أنا أهذي ، أنا محموم وخرفان"!
* * *
أخبار جولات المنبر السامي وحاشيته ، في مضارب سكنى الأغراب صارت أكثر من الهمّ على القلب ، وصار معروفاً للقاصي والداني، أن رعايته يرتكب هناك " السبعة وذمتها " ، وأنه قد قلع جلدة مؤخرته ، وحطّها على وجهه !!
أما شيخ القبة السامية فإن خالتي " كوكب" تقسم برأس أمها أنه ابن حرام ، وعيونه زائغة ، ويطارد النساء من قرنة إلى قرنة ، وأنها لن تذهب إليه بعد اليوم ليقرأ لها ، وحين سألتها عن السبب ، ردّت بعصبية :
" يا بن أختي ، هذا الرجل أنجس من كلب! عمري ما رأيت مثله ، الناس تقرأ بلسانها، أما هو فلا يقرأ إلا بيديه ، و يمرّس صدور النسوان ، ويدّعي أنه يقرأ جهة القلب تماماً ، ويتطاول أحياناً، إن رأى المخلوقة ضعيفة، فيمدّ مكسورته إلى تحت ، قال حتى تخلف المرأة إن كانت عاقراً "
تجرأت وسألتها :
- " وأنت يا خالتي إلى أين وصلت يده معك" ؟
فشدت أذني حتى كادت تقتلعها:
-" اخرس يا ولد ، قطع لسانك !! خالتك أشرف من الشرف ، والله لو حاول معي لكنت خنقته بيدي " .
ومجدداً صارت النسوة يتناقلن الإشاعات عن اختفاء " إسلام هان جارة القمر " ، صغرى زوجات المنبر السامي ، مؤكدة أنها ما عادت تستطيع العيش مع رجل شاذ بكل معنى الكلمة :
" ابن الحرام يريد أن يكون الأمر بيني وبينه أشبه ما يكون بالاغتصاب ، ألست زوجته بشرع الله " ؟!
* * *
كل شيء كان ممكناً ومقبولاً عدا تلك الليلة الرهيبة ، ببردها القارس وصقيعها الجاف ، ورياحها التي تعوي بالمقلوب في الطرقات والدروب .
سمعنا ارتطاماً وتكسّراً ، وعويلاً ينشب مفزعاً في قلب الليل .
امتزج أزيز الرصاص ، بعويل النساء وفحيح الرياح.. ليشكل نشيداً كونياً من فزع وهلع !!
كان لزاماً علينا أن نقضي الليل بطوله في قبو بيتنا الرطب المظلم .
فجأةً عبرت طلقة مجنونة نافذة بيتنا الوحيدة، وتحول الزجاج إلى شظايا تطايرت بجنون في كل الاتجاهات.
هجم الهلع عنيفاً ، فاحتل قلوبنا ، بكى أخوتي، ووجدتني أبكي معهم .
حان موعد أذان الفجر ، لكننا لم نسمع صوت الشيخ " عبد الله " كعادته ، يؤذن بصوته الحنون .
قال أبي : " حدث مكروه يا جماعة " !
أضافت أمي : " استرها معنا يا رب " .
بعد قليل سمعنا صوت أذان يأتي من الجامع الكبير ، تلته تكبيرات واضحة ، قالت أختي الوسطى : " إنها تكبيرات العيد " .
ردّ أبي ساخراً : " يا فهمانة كيف يأتي العيد ونحن في شعبان " ؟
* * *
تسلل ضوء صغير عبر نافذة بيتنا ، رسم خطّاً من نور باهت، وعلى شيء من الرهبة والاستحياء، مدّ والدي رأسه من خلال النافذة ، وسط احتجاجات أمي ، قال لها :
- "اتركيني يا حرمة أعرف ماذا جرى في الدنيا".
وعلى الفور انطلق الرصاص مثل زخّ المطر ، ولولت أمي، و ارتطم رأس أبي بحديد النافذة، وقع على الأرض ، ووقعنا فوقه .
أيقظنا صوت من خارج البيت ، يهدّد ويتوعّد :
- "طرشان ... ألم تسمع أن التجوّل ممنوع يا كلب؟" ؟
وعند الظهيرة تولى قارع الطبل ، والناطق الرسمي باسم رعاية المنبر السامي، الإعلان عن انتهاء منع التجوّل، وصارت المآذن تنادي بسقوط عرش "المذعن لمشيئة الله" وتسلّم مقاليد الحكم جلالة مولانا "الباهر إن شاء الله".
وسرت الأخبار في عموم أعمال وولايات السجعانية أن الباهر قد أطاح بعرش المذعن، لأنه طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد، فصبّ عليه ربه سوط عذاب.
وعلمنا أن رعاية المنبر الجديد سوف يتحدّث إلى الرعيّة صباح غدٍ ، وذلك بمناسبة تولّيه أمور البلاد.
وإن دستور السجعانية يوجب على كل الرجال البالغين الراشدين ، أن يحضروا مثل تلك الاحتفالات ، فمن تخلف خان، وكل خوّان فان.
صحونا على أصوات الطبول و المزامير تملأ الدنيا و تشغل الناس، و تعلن ولادة عهد جديد في حياة السجعانية العظيمة.
الزينات تلّون الشوارع، و حلقات الدبكة تنعقد في كل مكان، وجموع الرجال تنحدر من كلّ حدب و صوب.
خرجنا وسط توجيهات أمي الشديدة:
- "لا تفلت يد أبيك يا بني، خذ بالك من الولد يا بن الحلال " .
يردّ أبي بعصبية : "ابنك صار رجلاً يا منظومة ... كفى ثرثرة".
ووسط زلزال من التصفيق المدوّي، والهتاف بحياة المنبر السامي الجديد صعد "الباهر" ، و تسلّم صولجان الملك، ثم استوى على العرش قائلاً :
- "يا شعب السجعانية العظيم، لقد عاشت بلادنا عهوداً من الكفر و الضلالة، في ظلّ حكومة الجهل والجهالة، وهبّ سيف الحق ينفّذ بالخونة و العملاء شرعة العدل و العدالة، منكم نستمدّ القوة والأمان، ونمضي لبناء البلاد والإنسان، فمن ضلّ و خان، فسيوف القِصاص في كل مكان".
وتحدّث رعايته عن ابتعاد الناس عن دينهم، وتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وأشار إلى قرب الساعة ، ودعا بالخير والسقيا للبلاد والعباد، وكان الجموع يرددون "آمين ... أمين" .
* * *
تحسنت أحوال البلاد فترة من الزمان ، وبدت ملامح النعمة والرخاء في وجوه العباد، وسرت في البلاد نهضة من الزيجات، ونفقت كثير من البنات الكاسدات، وعمّ الخير ، فسجدنا لله شاكرين، وبفضل مولانا الباهر كنّا موقنين.
ولكن بما أن دوام الحال من المحال، فقد تغيرت الأحوال، وما عادت عال العال، وهاهو الباهر يعيد سيرة سلفه ، فيدير للعرش وجهه، وللرعية مؤخرته!
وزاد الأمر تعقيداً أن طائفة من شبان البلاد، ساءها فساد المنبر السامي وحاشيته، فشقّت عصا الطاعة، وفارقت الجماعة ، واعتصمت برؤوس الجبال ، تطالب برأس الحاكم الدجّال.
وحين عجز المنبر السامي عن النّيل من العصاة، والقضاء عليهم، استغاث بالأغراب ، فأنجدوه بكتائبهم المدرّعة، فدمّروا حصون المتمردين ، ودكّوا معاقل الإرهابيين، و دفنوهم تحت التراب أحياء، وما عادت تتشفّع بهم لا أرض ولا سماء.
وتكريماً لهؤلاء الجيران الأوفياء، فقد قرر رعاية المنبر السامي الاعتراف رسمياً بقيام مملكة "المظلومية"، وكذا فعل الكثير من عمال وولاة السجعانية، وتم تبادل السفراء والسفارات، والوفود و البعثات.
* * *
وذات صباح ذهبت صبايانا، إلى النهر الكبير يملأن الخوابي و الجِرار، ولكن صفّاً من جنود "المظلومية" المدججين بالسلاح حال بينهن وبين ما ينشدن، واختطفوا بعضهن، واعتدوا على بعضهنّ الآخر، بحجة انتهاك الحدود الآمنة لمملكتهم.
وكان على أهل السجعانية أن يستنجدوا بآبارهم القديمة، ولكن معظمها كان قد جفّ بفعل التصحّر ، وارتفاع درجة حرارة الأرض ، وهكذا عمّ العطش ، وساد الجدب ، ويبس الزرع ، و نفقت الدواب و الماشية.
وأمام هذا ، فقد دعا "الباهر بأمر الله" إلى عقد قمة طارئة وعاجلة لمجلس قيادة البلاد، حضره جميع العمال والولاة ، وكبار الزعماء والوجهاء ، وامتدت القمة أياماً وأياماً ، و تلتها مؤتمرات وجلسات، حتى صار القادة محطّ إشفاق الجميع، ثم خرجوا ببيانهم المطول على الناس ، والذي نصّ على مبايعة "الباهر" حاكماً مطلقاً على عموم السجعانية ، واستنكر الممارسات اللا إنسانية التي يقوم بها حكام "المظلومية" ، وأعلن عن فتح باب التبرعات والجهاد المقدّس من أجل تحرير الأرض المغتصبة.
ثم أقيم استعراض عسكري مهيب لحرس وجيش السجعانية، تحت شعار "فرسان المعركة "، و قد مرّ الفرسان من أمام المنصة الرئيسية يشهرون سيوفهم وتروسهم و دروعهم القديمة ، بعد أن جهدوا واستبسلوا في إزالة الصدأ و الغبار عنها !
وبعد لقائه بالمؤرخين والعلماء والباحثين، أشار "الباهر بأمر الله " إلى أهمية استعادة التسمية الأصلية للبلاد ، حيث ثبت بالدليل القاطع ، و بعد تحري الرّقم الأثرية ، أن "الشجعانية"هو الاسم الأصلي للبلاد وليس "السجعانية"، وذلك نسبة إلى مؤسسها "شجّاع بن شجعان" الذي قهر ذات حقبة جحافل الرومان ، وردّهم على أعقابهم يجرّون أذيال العار و الخذلان .
وانطلاقاً من أهمية تعميق الديموقراطية في عموم السجعانية ، فقد قرر رعاية المنبر السامي إجراء انتخابات حرّة ونزيهة للاستفتاء على تسمية المملكة الجديدة.
ولكن شعب السجعانية صاح بأسى وحزن عميق :
"ولكننا أمّيون لا نعرف القراءة و الكتابة يا مولانا"!!
فردّ الملك :
- "ابصموا باليسرى" .
فقال الشعب بذات النبرة :
- "ولكن أين اليسرى ، بل أين اليمنى"؟!
وهنا تدخل نائب المنبر السامي بحكمة أخرجت البلاد من ورطتها الكبرى:
- "قرّ عينا يا سيدي .. سنبصم باليسرى .. وباليمنى .. سنبصم بالعشرة يا مولاي"!!.
- محمد بسام سرميني
حلب 2001