فرسان ما بعد المعركة..!

00000000000000000000000000000000000000000

" السجعانية " مملكتي ومسقط هامتي ، من ترابها نبتّ ، وفي أحضان أشجارها وخضرتها ترعرعت .‏

بلادنا أعظم البلاد ، ويشهد بذلك كل العباد ، على أرضنا درج الصالحون والأولياء ، فذاع صيتنا في الأرض والسماء .‏

وبإمكان المهتمين بتاريخ مملكتنا ، أن يبحروا في سفر " الحقائق النورانية في تاريخ السجعانية " لمؤلفه العالم العلاّمة ، والأديب الفهّامة الشيخ :" اسحاق صفوت باشا الأوراقي " ليقفوا على صحة ما نقول .‏

ومن شاء الاستزادة ، فليقرأ في باب "السين" أهم المذاهب والآراء ، في تسمية السجعانية الغرّاء :‏

" السجعانية " نسبةً إلى مؤسسها : "سجّاع بن سجعان" ، الذي قهر ذات حقبة جحافل الرومان، وردّهم على أعقابهم يجرّون أذيال العار والخذلان.‏

ويرى فريق آخر أنها سميت بذلك لاشتهار أهلها بالسجع ، الذي توارثوه أباً عن جد ، فتمايزوا بذلك عن سائر البلدان ، وجرى السجع على كل لسان .‏

ويرى آخرون أن السجعانية جاءت من مزج كلمتي " سَجْد غانية " ، ويذهبون إلى أن البلاد عرفت قديماً غانيةً، هزّت بخصرها أركان البلاد، وفتنت بإغرائها النسّاك والزهّاد .‏

والغريب في أمرها أنها كانت تسجد للآلهة كل ليلة سجدة واحدة ، منذ الفجر وحتى بزوغ الشمس ، تكفيراً عمّا ارتكبته في الليل من آثام وذنوب .‏

ولكننا نرجح ـ والقول هنا للشيخ الأوراقي -أن هذا المذهب ضعيف ، لعدم ثبوت الأدلة التاريخية ، والبراهين والأسـانيد القوية .‏

ولعل كثرة الذرّيّة والإنجاب هي من أهم ما يميز مملكتنا ، ولذلك فإن الأفكار المستوردة حول منع الحمل وتنظيم النسل ، والتي نادى بها "عارف مفتوح العينين "، لم تجد سبيلها إلينا ، بل بقيت في دائرة النسيان والاستهجان.‏

وكان طبيعياً أن تتكاثر الأعمال والولايات؛ فهذه ولاية " الشــعرانية " ، ومعظم أهلها شعراء من ظهر شعراء ، والطفل منذ أن يفتح فمه يرتجل شعراً موزوناً مقفّىً ، يليق أن يكتب بماء الذهب .‏

وهذه ولاية " المســرحانية " ، حيث يتفرّد أهلها بعشقهم للمسرح ، وبراعتهم في التمثيل ، فتجد الواحد منهم يؤلف المسرحية ويمثلها ويخرجها بمفرده .‏

وهناك ولايات : الموســيقاتية ، والقهواتيــة ، والبهلوانيــة .. .. وحول مشارف المملكة صرنا نسمع عن نهوض ممالك مستقلة مثل: الطبّالـة ، والزمّـارة ، والدّباكــة .. تشمخ بقصورها فوق العيون، وتقول للزمان : "كن فيكون" .‏

وهكذا لم يعد لاسم " السـجعانية " ورود إلا في البيانات الحكومية المركزية ، وصار بمقدور بضعة بيوت وأحياء ، أن تؤمر عليها من يسوسها ، ويحدد أهدافها واستراتيجيتها، ويقرر إن كان ممكناً التعاون مع الجار الأيمن أو الأيســر ، و الذي فوق، أو الذي تحت .‏

* * *‏

.. وقريباً من تخومنا الخضراء ، حطّت قبيلةٌ من الأغراب، نصبت خيامها ، وأضرمت نيرانها، وأطلقت للمرعى دوابها .‏

ولأن الجميع كان منشغلاً برسم الحدود ، فإن أحداً لم يحرك ساكناً ، وربما لم يصل خبر هؤلاء الأغراب مسامع رعاية " المنبر السامي " الذي كان يحتفل بزواجه الخامس والعشرين.‏

وأول تصريح رسمي صدر عن ديوان رعايته بشأن قبيلة "الأغراب" ، كان عقب قضية الصبية السمراء : مريم ابنة الحجة أمّون ، والتي كانت تعرف باسم " مريم سكر زيادة " ، لما وهبها الله من حلاوة الوجه ، وعذوبة الحديث ، بحيث تستطيع الصبية برمشة عين أن تدوّخ أكبر شارب!!‏

.. وكان أحد الشباب الأغراب قد فقد مسمار أمانه ، حين وقع بصره على الصبية مريم ، فهجم عليها ينشد الوصال ، فقامت الدنيا ولم تقعد !!‏

تحدث رعاية " المنبر السامي " لرئيس قبيلة الأغراب بنبرة كما الشرر :‏

" لو لم تكونوا ضيوفنا ، وطلبتم حقّ اللجوء السياسي إلى ديارنا ، لعرفنا كيف نؤدبكم ، قد نتسامح بالمال والحلال وشيء من الأرض، ولكن كل شيء إلا الشرف والعرض " !!‏

نكّس الأغراب رؤوسهم ، وقبّل المتّهم الأرض تحت قدمي رعايته ناشداً الصفح والغفران.‏

ويروى أن قلب المنبر السامي قد رقّ للمتهم، متفهّماً دوافعه ومقاصده ، ولذا فها هو يصرف النظر عن قطع رأسه كما تقضي الدساتير ، مكتفياً باسترقاقه وسبيه مدى الحياة!!‏

ولم يستطع أحد من الورّاقين أن يشير إلى أن الشاب كان يفوق الحسن حسناً ، ويبزّ النساء دلالاً وظرفاً ، وأن رعايته أحبّه ، وقرّبه من مجلسه ، وكان يستدعيه إلى خلوته بعيد منتصف الليل ، فلا يغادر إلا مع خيـوط الفجر ، مثقل الرأس ، مهدود الجـسد ، تسنده أعمدة القصر !!‏

* * *‏

الأغراب ما عادوا أغراباً ، عاشرناهم وعاشرونا ، منحناهم صدور بيوتنا ، وخضرة بساتيننا ، كنا كراماً من نسل كرام ...‏

وكانوا كذلك وأسخى ؛ قدموا لنا نساءهم مع لفافات التبغ والحشيش ، وحملوا إلينا عذاراهم ، فمنحناهنَّ فحولةً لم يشهد التاريخ لها مثيلاً ، فأخصبت الأرض والأرحام ، واختلطت الحقائق بالأوهام.‏

فعلنا مع جيراننا كل ما يخطر في بال إلا الزواج !! فقد وجب علينا أن نلتزم بتعاليم "قبة الإفتاء " التي قضت بعد مناقشات ومساجلات، أن الاختلاط والمعاشرة جائزتان على اعتبار أنهن في حكم سبايا الحروب، أما الزواج فباطل ومردود . وجاء في نص الفتوى:‏

" لا يحلّ الزواج من نساء هذه القبيلة، لأن مذهبنا غير مذهبهم ، ومذهبهم غير مذهبنا"!!‏

وقد لوحظ أن هذه الفتوى لم تثر حفيظة الأغراب ، فجاء رئيسهم يحمل للمنبر السامي ، صناديق الذهب والفضة ، وخوابي الخمرة الخالية من الكحول ، وبصحبته اثنتا عشرة صبيّةً من حور الأرض وعينها ، ليعملن على راحة مولانا، أدام الله ظله.‏

ولم تمض أيام حتى تزوج رعايته من "أسمهان جارة القمر " ، والتي لقبت بذلك اعترافاً بفتنتها وسحرها، وأشيع في أرجاء البلاد أن أسمهان ، ابنة الثلاثة عشر ربيعاً ، قد أشهرت إسلامها تحت قبة الإفتاء ، وصار اسمها " إسلام هان / جارة القمر " ، وسوف يأتي زمان بعيد ، يسوّق فيه هذا الاسم الجميل ، ليطلق على الساحات والفنادق ، وربما المسلسلات والبرامج المتلفزة!!‏

واسـتوجب ذلك الزواج الميمون ، أن تسـتصدر قبة الإفتاء فتوىً تجيز الزواج ممن تعلن إسلامها من نساء قبيلة الأحباب ، وفي حدود ما يخدم أمن "السجعانية".‏

ونظراً للمستجدات الراهنة ، فقد ارتأى رعاية المنبر السامي ، أن يتولى مسألة أمن قبيلة الأحباب ، ويشرف عليها بنفسه ، مؤكداً أنه سيبقى الساهر على راحة شعبه، والراعي الأمين لمصالحه " وكل راعٍ مسؤول عن‏

رعيته" !!‏

وهكذا كان مولانا ـ حفظه الله ـ ترافقه ثلّة من كبار الوجهاء والأعيان ، يقصدون مضارب قبيلة الأحباب، حين يرخي الليل أستاره ، يتابعون مهامهم الوطنية والأمنية على أكمل وجه، وأكمل قفا !!‏

وقد حملت ألسنة الظلام أن رعايته والحاشية الموقرة، يجتاحون نساء قبيلة الأحباب في عقر دارهن ، وتمتد موائد الفجور حتى الصباحات الباكرة ، وكان رئيس القبيلة الراعي لحفلات العُهدِ الفريدة ، يسترخي على عرشه المزخرف بنفائس العاج والمرجان ، والذي يعلوه قرنا ثور عظيم من الذهب الخالص . ويبدو أن أول من أطلق عبارة "أبو قرون " هم أهل السجعانية ، ويقصدون بها رئيس وزعماء قبيلة الأغراب الذين طارت النخوة من رؤوسهم .‏

* * *‏

فجأةً ، تمّ استدعاء الشاب " عارف مفتوح العينين" إلى أروقة وسراديب "جمعية الأخلاق المجيدة والفِعال الرشيدة " ، وذلك للتحقيق معه حول التهم المنسوبة إليه ، والتي تهدد أمن الدولة مباشرة ، وقد واجه مفتوح العنين تهمة الترويج الكاذب عن فساد المنبر السامي وحاشيته .‏

وبعد ثلاثة أيام من التحقيق المتواصل ، قام مدّعـي الجمعية العام بالإفـراج عن مفتوح العينين ، بعد تبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه.‏

* * *‏

جاء مصرع " عارف مفتوح العينين " بعد أسبوع من الإفراج عنه ، ليثير الفزع ، ويبثّ الهلع؛ فقد شوهدت جثة الشاب تطفو على سطح النهر ، بعد أن انتفخت، وجرفتها السيول بعيداً .‏

وأكد تقرير المجلس الطبي الاستشاري الأعلى ، أن مفتوح العينين ، قد ألقى بنفسه في النهر منتحراً، بعد أن كبّل يديه ورجليه بالأغلال الحديدية، وأنه يستبعد أية شبهة جنائية أو إرهابية تكون قد لحقت بمفتوح العينين.‏

وأوضح اختصاصي القصر النفسي والاجتماعي ، أن المأسوف على شبابه ، قد أقدم على الانتحار يأساً وحزناً، نتيجة لما كان يعانيه من إخفاق عاطفي ، وانطواء نفسي وعصابي .‏

لكن كلاماً كثيراً تردد في الخفاء ، أن مفتوح العينين قد لقي مصرعه على أيدي مباحث القصر السريين ، الذين قاموا بتصفية الشاب المثقف بمنتهى الحرفية والبراعة !! ‍‍‏

كما نقلت بعض النسوة أن عارفاً كان يهيم بحب الصبية " مريم سكر زيادة " ، و أنهما تواعدا على الزواج، وحين بلغها نبأ مصرع حبيبها ولولت ، وقطّعت شعرها بيديها ، وهي تصرخ بأعلى صوتها:‏

- " قتلوه أولاد الحرام .. فعلوها الكلاب " !!‏

لكن خالتها أسرعت ، وسدّت فمها ، وهي تقول لها :‏

- " استرينا .. الله يسترعليك " .‏

لكن أغرب ما في قضية الشاب القتيل ، أن عينيه بقيتا مفتوحتين رغم موته ، مما أثار فزع التربي الذي حكى لزوجته:‏

" صدقيني يا بنت الحلال ، كنت أغمض له عينيه ، وأدير وجهه صوب القبلة ، لكنه لا يلبث أن يفتح عينيه من جديد ، لكأنه لا يريد أن يموت ، عارف لم ينتحر، رأيت آثار أظافرهم على عنقه ، وكدماتهم في وجهه ، لقد قتلوه يا امرأة " .‏

ثم يصحو التربي من سكرته و يهمس :‏

" أعوذ بالله الحيطان لها آذان ، ولها فم ولسان، لا تصدقيني يا بنت الحلال ، أنا أهذي ، أنا محموم وخرفان"!‏

* * *‏

أخبار جولات المنبر السامي وحاشيته ، في مضارب سكنى الأغراب صارت أكثر من الهمّ على القلب ، وصار معروفاً للقاصي والداني، أن رعايته يرتكب هناك " السبعة وذمتها " ، وأنه قد قلع جلدة مؤخرته ، وحطّها على وجهه !!‏

أما شيخ القبة السامية فإن خالتي " كوكب" تقسم برأس أمها أنه ابن حرام ، وعيونه زائغة ، ويطارد النساء من قرنة إلى قرنة ، وأنها لن تذهب إليه بعد اليوم ليقرأ لها ، وحين سألتها عن السبب ، ردّت بعصبية :‏

" يا بن أختي ، هذا الرجل أنجس من كلب! عمري ما رأيت مثله ، الناس تقرأ بلسانها، أما هو فلا يقرأ إلا بيديه ، و يمرّس صدور النسوان ، ويدّعي أنه يقرأ جهة القلب تماماً ، ويتطاول أحياناً، إن رأى المخلوقة ضعيفة، فيمدّ مكسورته إلى تحت ، قال حتى تخلف المرأة إن كانت عاقراً "‏

تجرأت وسألتها :‏

- " وأنت يا خالتي إلى أين وصلت يده معك" ؟‏

فشدت أذني حتى كادت تقتلعها:‏

-" اخرس يا ولد ، قطع لسانك !! خالتك أشرف من الشرف ، والله لو حاول معي لكنت خنقته بيدي " .‏

ومجدداً صارت النسوة يتناقلن الإشاعات عن اختفاء " إسلام هان جارة القمر " ، صغرى زوجات المنبر السامي ، مؤكدة أنها ما عادت تستطيع العيش مع رجل شاذ بكل معنى الكلمة :‏

" ابن الحرام يريد أن يكون الأمر بيني وبينه أشبه ما يكون بالاغتصاب ، ألست زوجته بشرع الله " ؟!‏

* * *‏

كل شيء كان ممكناً ومقبولاً عدا تلك الليلة الرهيبة ، ببردها القارس وصقيعها الجاف ، ورياحها التي تعوي بالمقلوب في الطرقات والدروب .‏

سمعنا ارتطاماً وتكسّراً ، وعويلاً ينشب مفزعاً في قلب الليل .‏

امتزج أزيز الرصاص ، بعويل النساء وفحيح الرياح.. ليشكل نشيداً كونياً من فزع وهلع !!‏

كان لزاماً علينا أن نقضي الليل بطوله في قبو بيتنا الرطب المظلم .‏

فجأةً عبرت طلقة مجنونة نافذة بيتنا الوحيدة، وتحول الزجاج إلى شظايا تطايرت بجنون في كل الاتجاهات.‏

هجم الهلع عنيفاً ، فاحتل قلوبنا ، بكى أخوتي، ووجدتني أبكي معهم .‏

حان موعد أذان الفجر ، لكننا لم نسمع صوت الشيخ " عبد الله " كعادته ، يؤذن بصوته الحنون .‏

قال أبي : " حدث مكروه يا جماعة " !‏

أضافت أمي : " استرها معنا يا رب " .‏

بعد قليل سمعنا صوت أذان يأتي من الجامع الكبير ، تلته تكبيرات واضحة ، قالت أختي الوسطى : " إنها تكبيرات العيد " .‏

ردّ أبي ساخراً : " يا فهمانة كيف يأتي العيد ونحن في شعبان " ؟‏

* * *‏

تسلل ضوء صغير عبر نافذة بيتنا ، رسم خطّاً من نور باهت، وعلى شيء من الرهبة والاستحياء، مدّ والدي رأسه من خلال النافذة ، وسط احتجاجات أمي ، قال لها :‏

- "اتركيني يا حرمة أعرف ماذا جرى في الدنيا".‏

وعلى الفور انطلق الرصاص مثل زخّ المطر ، ولولت أمي، و ارتطم رأس أبي بحديد النافذة، وقع على الأرض ، ووقعنا فوقه .‏

أيقظنا صوت من خارج البيت ، يهدّد ويتوعّد :‏

- "طرشان ... ألم تسمع أن التجوّل ممنوع يا كلب؟" ؟‏

وعند الظهيرة تولى قارع الطبل ، والناطق الرسمي باسم رعاية المنبر السامي، الإعلان عن انتهاء منع التجوّل، وصارت المآذن تنادي بسقوط عرش "المذعن لمشيئة الله" وتسلّم مقاليد الحكم جلالة مولانا "الباهر إن شاء الله".‏

وسرت الأخبار في عموم أعمال وولايات السجعانية أن الباهر قد أطاح بعرش المذعن، لأنه طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد، فصبّ عليه ربه سوط عذاب.‏

وعلمنا أن رعاية المنبر الجديد سوف يتحدّث إلى الرعيّة صباح غدٍ ، وذلك بمناسبة تولّيه أمور البلاد.‏

وإن دستور السجعانية يوجب على كل الرجال البالغين الراشدين ، أن يحضروا مثل تلك الاحتفالات ، فمن تخلف خان، وكل خوّان فان.‏

صحونا على أصوات الطبول و المزامير تملأ الدنيا و تشغل الناس، و تعلن ولادة عهد جديد في حياة السجعانية العظيمة.‏

الزينات تلّون الشوارع، و حلقات الدبكة تنعقد في كل مكان، وجموع الرجال تنحدر من كلّ حدب و صوب.‏

خرجنا وسط توجيهات أمي الشديدة:‏

- "لا تفلت يد أبيك يا بني، خذ بالك من الولد يا بن الحلال " .‏

يردّ أبي بعصبية : "ابنك صار رجلاً يا منظومة ... كفى ثرثرة".‏

ووسط زلزال من التصفيق المدوّي، والهتاف بحياة المنبر السامي الجديد صعد "الباهر" ، و تسلّم صولجان الملك، ثم استوى على العرش قائلاً :‏

- "يا شعب السجعانية العظيم، لقد عاشت بلادنا عهوداً من الكفر و الضلالة، في ظلّ حكومة الجهل والجهالة، وهبّ سيف الحق ينفّذ بالخونة و العملاء شرعة العدل و العدالة، منكم نستمدّ القوة والأمان، ونمضي لبناء البلاد والإنسان، فمن ضلّ و خان، فسيوف القِصاص في كل مكان".‏

وتحدّث رعايته عن ابتعاد الناس عن دينهم، وتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وأشار إلى قرب الساعة ، ودعا بالخير والسقيا للبلاد والعباد، وكان الجموع يرددون "آمين ... أمين" .‏

* * *‏

تحسنت أحوال البلاد فترة من الزمان ، وبدت ملامح النعمة والرخاء في وجوه العباد، وسرت في البلاد نهضة من الزيجات، ونفقت كثير من البنات الكاسدات، وعمّ الخير ، فسجدنا لله شاكرين، وبفضل مولانا الباهر كنّا موقنين.‏

ولكن بما أن دوام الحال من المحال، فقد تغيرت الأحوال، وما عادت عال العال، وهاهو الباهر يعيد سيرة سلفه ، فيدير للعرش وجهه، وللرعية مؤخرته!‏

وزاد الأمر تعقيداً أن طائفة من شبان البلاد، ساءها فساد المنبر السامي وحاشيته، فشقّت عصا الطاعة، وفارقت الجماعة ، واعتصمت برؤوس الجبال ، تطالب برأس الحاكم الدجّال.‏

وحين عجز المنبر السامي عن النّيل من العصاة، والقضاء عليهم، استغاث بالأغراب ، فأنجدوه بكتائبهم المدرّعة، فدمّروا حصون المتمردين ، ودكّوا معاقل الإرهابيين، و دفنوهم تحت التراب أحياء، وما عادت تتشفّع بهم لا أرض ولا سماء.‏

وتكريماً لهؤلاء الجيران الأوفياء، فقد قرر رعاية المنبر السامي الاعتراف رسمياً بقيام مملكة "المظلومية"، وكذا فعل الكثير من عمال وولاة السجعانية، وتم تبادل السفراء والسفارات، والوفود و البعثات.‏

* * *‏

وذات صباح ذهبت صبايانا، إلى النهر الكبير يملأن الخوابي و الجِرار، ولكن صفّاً من جنود "المظلومية" المدججين بالسلاح حال بينهن وبين ما ينشدن، واختطفوا بعضهن، واعتدوا على بعضهنّ الآخر، بحجة انتهاك الحدود الآمنة لمملكتهم.‏

وكان على أهل السجعانية أن يستنجدوا بآبارهم القديمة، ولكن معظمها كان قد جفّ بفعل التصحّر ، وارتفاع درجة حرارة الأرض ، وهكذا عمّ العطش ، وساد الجدب ، ويبس الزرع ، و نفقت الدواب و الماشية.‏

وأمام هذا ، فقد دعا "الباهر بأمر الله" إلى عقد قمة طارئة وعاجلة لمجلس قيادة البلاد، حضره جميع العمال والولاة ، وكبار الزعماء والوجهاء ، وامتدت القمة أياماً وأياماً ، و تلتها مؤتمرات وجلسات، حتى صار القادة محطّ إشفاق الجميع، ثم خرجوا ببيانهم المطول على الناس ، والذي نصّ على مبايعة "الباهر" حاكماً مطلقاً على عموم السجعانية ، واستنكر الممارسات اللا إنسانية التي يقوم بها حكام "المظلومية" ، وأعلن عن فتح باب التبرعات والجهاد المقدّس من أجل تحرير الأرض المغتصبة.‏

ثم أقيم استعراض عسكري مهيب لحرس وجيش السجعانية، تحت شعار "فرسان المعركة "، و قد مرّ الفرسان من أمام المنصة الرئيسية يشهرون سيوفهم وتروسهم و دروعهم القديمة ، بعد أن جهدوا واستبسلوا في إزالة الصدأ و الغبار عنها !‏

وبعد لقائه بالمؤرخين والعلماء والباحثين، أشار "الباهر بأمر الله " إلى أهمية استعادة التسمية الأصلية للبلاد ، حيث ثبت بالدليل القاطع ، و بعد تحري الرّقم الأثرية ، أن "الشجعانية"هو الاسم الأصلي للبلاد وليس "السجعانية"، وذلك نسبة إلى مؤسسها "شجّاع بن شجعان" الذي قهر ذات حقبة جحافل الرومان ، وردّهم على أعقابهم يجرّون أذيال العار و الخذلان .‏

وانطلاقاً من أهمية تعميق الديموقراطية في عموم السجعانية ، فقد قرر رعاية المنبر السامي إجراء انتخابات حرّة ونزيهة للاستفتاء على تسمية المملكة الجديدة.‏

ولكن شعب السجعانية صاح بأسى وحزن عميق :‏

"ولكننا أمّيون لا نعرف القراءة و الكتابة يا مولانا"!!‏

فردّ الملك :‏

- "ابصموا باليسرى" .‏

فقال الشعب بذات النبرة :‏

- "ولكن أين اليسرى ، بل أين اليمنى"؟!‏

وهنا تدخل نائب المنبر السامي بحكمة أخرجت البلاد من ورطتها الكبرى:‏

- "قرّ عينا يا سيدي .. سنبصم باليسرى .. وباليمنى .. سنبصم بالعشرة يا مولاي"!!.‏

  • محمد بسام سرميني
    حلب 2001‏

إرسال تعليق

أحدث أقدم