كعادته في لحظات الجزر... امتد حماسه غامراً مرافئ الحكمة... مطفئاً جذوة الصمت المتقدة داخل حنجرته.. رمى خلفه أسراب الأشباح... خلع بقايا خوفه ووقف وراء مكتبه معلناً بداية التحدي: سيدتي قبلت قضيتك. منذ اللحظة أنا ومكتبي رهن لديك، ابتسامة خافتة بدأت تشرق عند زاوية فمها الدقيق: أنا عاجزة عن شكرك، فلقد أغلقت دوني الأبواب وطوحت بي الدروب وعندما خيل لي أنك من الذين يحملون السلّم بالعرض، أدركت أنك ملاذي الوحيد فأرجوك لا تخذلني... احمني من زمني هذا.
مزن الدمع المطلة من عينيها والموشكة على الانفجار، كلماتها المرتعشة والمتوسلة باستحياء حشرته تحت ظلال الغضب مثيرة جنون انفعاله، صرخ مؤكداً قراره: سأنقذك من براثنهم.
ثم خفض صوته مهدهداً خوفها: لا تخافي لن أدعهم يفترسونك. –يفترسونني؟ استعظمت هذه الكلمة، ثبتت نظراتها الحزينة في وجهه، انبثقت قطرات الدمع من عينيها وهمهمت: أتعلم يا بني ما زلت حتى اللحظة لا أصدق ما أراه وأسمعه، رغم أفعالهم التي تتظاهر ضدي، لا أصدق أنهم سيستبيحونني ويسوقونني نحو الهاوية، أنا من منحتهم عمري وقلبي، هل يعقل أن يفترس الجرو أمه التي أرضعته من صدرها... أيعقل هذا أيعقل؟؟
-سيدتي كل شيء وارد في زمن لا تمتلئ فيه البطون، ولا تشبع فيه النفوس.
-لكن أيعقل أن يهجرني دمي ولحمي. أن تجدل حول عنقي أنشوطة تود خنقي حتى الممات.. أيعقل؟؟
-أجل سيدتي.. صدّقي في زمن ألبس اللامعقول منطق الوجود، زمن فرض علينا تصديق كل شيء.. كل شيء لكن لا تخافي سأحررك من تلك الأنشوطة النتنة... سأقطعها وأمزقها بكل ما أوتيت من قوة..
مدّت يدها متحسسة عنقها.. سحبت أنفاسها بوهن وبوهن أشد سحبت كلماتها: -لو لم تشدّ أنشوطتهم علي الخناق، ولو أفسحت لي حيزاً صغيراً جداً أمارس خلاله عملية التنفس فقط، لو لم تعصر عنقي بقسوة ما استجرت بك وبالآخرين... وما تركتك تقطعها وتمزقها... بل كنت سأدعها حول عنقي راضية سعيدة بها... لكن لم يتركوا لي مجالاً للخيار... كل واحد منهم يملك مال قارون وأراضي تغطي مساحتها نصف البلدة .. جاهاً ومكانة...
وفجأة تكورت عيونهم وجحظت، ضاقت أحداقهم واستدارت نظراتهم متحدة عند البيت الذي أقطنه وقطعة الأرض التي أعتاش منها فتدانوا بعد فرقة، واقتربوا مني بعد غربة، نثروا بوجهي كل ما طرحته نفوسهم من رغبات... وبلطف بدؤوا طلبهم... سيبيعون... سيبيعون البيت والأرض ويدفعون بي للإقامة في إحدى دور العجزة... دهسوا بأطماعهم كل حنيني... صلبوا على كلماتهم الرقيقة فرحتي بلقائهم... ابتساماتهم المستعارة اغتصبت بسمتي، رفضت بشدّة، عندها نفثوا سمومهم وأشهروا غلّهم حتى اتهموني بالجنون.
امتدت يدها المرتعشة نحو علبة المناديل الورقية، أخرجت منديلاً، كفكفت دموعها، مسحت بقايا الزبد المتجمعة عند زوايا فمها... ضحكت وبمرارة تساءلت: هل ستربح القضية. أخشى أن نخسرها؟
رسم بإصبعه إشارة النصر وصرخ: -بل سنربحها.
أمسك يدها وانحنى أمامها: -سنربحها سيدتي، سنربحها يا أمي.
كعادتها في لحظات الجزر عاشت جنون الخوف وبعد فترة من الذهول انتفضت على الفور، تمنطقت غضبها، وفتحت فمها إلى أبعد مدى محاولة إطلاق صوت يدل على الرفض وبلهجة هستيرية آمرة صاحت: -ابتعد عن المرأة، دع القضية.
توقفت عن الصراخ وحدقت به، أصغت ملء أذنيها مستدرجة الإجابة، لكن صمتاً عميقاً ساد المكان لم يقطعه سوى صراخها المهزوم، أدركت كنه صمته، سقط قلبها في جوفها، تلاحقت أنفاسها بشدة، انطفأ كل إدراكها وهي تراه يتابع قراءة الجريدة دون مبالاة لها، فانطلق لسانها يهلوس بكلمات شتى لم تقو على كبحها، ثم دنت منه اختطفت منه الجريدة، مزقتها بعصبية مطلقة ضحكة جنونية ساخرة:
-تقرأ الجريدة والخطر يحدق بنا.
اعترض ببرود: خطر أي خطر؟
-أي خطر... تلك المرأة وقضيتها المشؤومة.
-وهل تحمل قضية تلك العجوز المسكينة خطراً لنا... لا أرى ذلك.
صرخت وهي في غاية التشنج: -إنهم يهددون ويتوعدون.
-فليهددوا وليتوعدوا.
-لكنهم إذا هددوا ينفذون التهديد.
-فليفعلوا ما شاؤوا.. لن أتخلى عن تلك القضية، إنها قضية أم، قضية مبدأ.
-مبدأ.. لقد بعت سعادتي في سبيل المبدأ... قبلت بالجوع والحرمان والفقر ثمناً للقيم... لكن لن أدعك تغدو أنت ثمناً لمبادئك تلك لن أدعك.
-وهل تريدينني أن أخفي كالآخرين رأسي داخل ياقة معطفي وأتابع السير خشية الموت... لا لن أقبل ولن أتخلى عن القضية، أعلن قراره بحزم، جمع بقايا صوته وغادرها مخلفاً إياها فريسة هواجس حاولت عبثاً إغمادها في جوف دخان سيكارة راحت تذوب بين إصبعيها المتوترتين.
وكعادته كلما بثه شكواه قايض حديثه المسترسل بلا انقطاع، بصمت الاستماع... فرك أرنبة أنفه، تأمله وهو يصغي إليه بنظرات فاحصة لحظة ومستنكرة لحظات... وعندما أنهى شكايته تخفى بقناع الواعظ، شبك يديه فوق صدره، أغمض عينيه، وزمَّ شفتيه، راسماً صورة مبتورة لبوذا، تنحنح قليلاً... عبأ أنفاسه ثم أطلق وصاياه: -زوجتك محقة... دع القضية.
-لكن...
قهقه بصوت عالٍ، باتراً مبرراته، لوّح بيديه في الهواء، وأشار متسائلاً: -لكن ماذا؟ ستقول المبدأ... لماذا تصر أن تلتحف بسواده وتلبس قرارك نسيجه... لقد اهترأ نسيجه ومزقه الزمن، حلت الأيام خيوطه وغدا بضاعة كاسدة مرمية في مخازن الماضي يمتنع الباعة عن ترويجه ويتجنب الناس شراءه ولو بدرهم وأنت تصر على شرائه بروحك... تعقل يا صاحبي، تعقل... تلبدت ملامحه... هاله كل هذا الوعظ... غمغم بكلمات مستنكرة: لا لا... المبدأ عنصر ثابت في الحياة كالماء والهواء... لا يمكن أن يتغير... لا يمكن...
-بل المبدأ هو الوحيد يا عزيزي الذي يتغير بظرفي الزمان والمكان، يتبدل بتبدل اليد التي تخطه... وفي زمننا هذا استترت المبادئ بظلال أيامه وخط أفراده مبادئ حديثة يستحق المرء أن يبيع روحه ثمناً لها... أما مبادئك البالية فلا تستحق قرارك، لا تستحق.
-لكنها أم.
-حتى مفهوم الأم يتغير بظرفي الزمان والمكان... لذا أولادها محقّون بفعلهم ذاك فلا تثر بينك وبينهم عداوة قد تودي بحياتك... اسمعني... أصغ لزوجتك... للآخرين وابتعد عن تلك المرأة.
انقبضت أساريره وهو يصغي إلى تفصيلات جديدة لفلسفة توحي بالاشمئزاز... تأججت في أعماقه خيالات مرعبة، أثارته، هزته، وعمدت قراره... صاح بعناد: لن أتخلى عن القضية... لن أتخلى... وليكن ما يكون.
وكالعادة في لحظات الجزر التفتْ حوله جموعُ الواعظين وارتفعت أصواتهم محذرة... منذرة ومن خلال الأصوات تغربل صوتها، جاءه متسللاً من وسط الأصداء... باغته قدومها... انتابه اضطراب ممزوج بالفزع حين لاح القلق المهيمن عليها... صفرة وجنتيها... شفتاها المرتعشتان، ابتسامتها الميتة، وجهها المكتئب حمل لـه أسئلة مبهمة لا جواب لها، اندفعت إليه، ضمته إلى صدرها بادرته بالمكاشفة:
-تلك القضية...
سؤالها اختزل كل استفساراته... بدد غموض زيارتها وحلّ طلاسمه.
-أسمعت عنها...؟
همست بصوت مخنوق: -سمعت عنها الكثير المرعب... لذلك ابتعد عنها.
-أتخلى عن القضية... عن المبدأ الذي علمتني وأرضعتني إياه، هل نسيتيه، هل غيب الزمن ذكراه عندك.
-كنت أعيش عالم أوهام... ولدت وعشت فيه، استمتعت بحياتي دون مناقشة أصول ومبادئ تلك الحياة... واليوم اكتشفت أن حياتي كانت خطأً كبيراً ومبادئها كانت أموراً وهمية توالدت في لحظات وهمية... لا تستحق التضحية لأجلها... فلا تبذل روحك ثمناً لسراب، ولا تبع نفسك لأوهام نادمة كل الندم على اقتناعي بها وغرسها فيك.
-إذاً أنت جادة في دعوتك تلك للتخلي عن القضية؟
-أجل كل الجد... للسبب الذي ذكرته... ولأجل سلامتك.
-حقاً أنت جادة في دعوتك.
أمسك رأسها بين يديه... حدّق بها... دارت نظراته تتقرى الحقيقة تنقب عنها، فرت من عينيها دمعة، ضمته إلى صدرها بقوة... رأسه اندفع بين أضلاعها، لامس قلبها النابض بالقلق، انبثق صوتها معلناً قرارها: -حسناً تمسك بالقضية... دافع عنها بكل ما لديك لكن انتبه لنفسك جيداً.
لحظة إعلان الحكم... اتسعت ابتسامتها متجاوزة تضاريس وجهها وتضاريس المكان الذي أشرق لابتسامتها المتلألئة في حين أظلمت وجوههم واسودت لها... تجاهل ظلمة وجوههم... حقدهم... أمسك يدها، غادرا القاعة مجللين بزهو المنتصرين... فجأة داهمه شيء ساخن حار... تسلل إلى جسده... أثار فيه ألماً حاداً... تهاوى جسده كلياً... تساقطت أعضاؤه عضواً تلو الآخر... غامت الرؤى وانسدلت أمامه حجب شفافة بدأت تتكاثف تدريجياً، ومن وراء الحجب امتدت أياد بيض، أخذت تصفق لـه بحدة، رنين الهاتف يتعالى حوله...
-ألو مرحباً أستاذ.
-أهلاً
-هل كنت نائماً آسف للإزعاج...
-حسناً ما الأمر...
-تلك المرأة... صاحبة قضية الحجر... تود رؤيتك... تدعي أن الآخرين رفضوا قبول قضيتها وهي تستعطفك للمرة الرابعة راجية موافقتك.
-لقد أعلنت رفضي لقضيتها في المرات السابقة... أفهمتها مراراً أنني لن أتبنى قضيتها تلك... يا أخي لست نداً لأولادها... لا أستطيع مجابهتهم... لن أقف في وجههم... لا أحد يستطيع الوقوف في وجههم... اصرفها... قل لها إني مريض مسافر غير موجود... قل لها أي شيء.
أغلق سماعة الهاتف... نفث زفرة بعمق.. وكالعادة في لحظات الجزر شدّ اللحاف إليه... غطى رأسه ثم أغمض عينيه محاولاً استدراج حلمه من جديد.
- د. رنا أبو طوق
- عن درس استثنائي ـــ د.رنا أبو طوق - قصص ـ من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2003
قصة جميلة جداً شكرا لك استمتعنا بالقراءة
ردحذفمابين مد وجز ضاعت معاك سنيني ، حلوة :)
ردحذف