"أروي لهم حكاية عظيمة" Tell Them a Big Story هي عبارة مذكورة في الأدبيات الإدارية العالمية عندما يكون الحديث عن صناعة الرؤية المستقبلية التي تتملك أحلام الجمهور وتدفع الموظفين للانطلاق الجاد والحثيث أملا في تحقيق الوعود التي تتضمنها هذه الرؤية، ويخلق شعورا بأن المقبل أفضل وأن هناك حلا للمشكلات في طريقه للتحقق أو تطويرا مميزا سيرى النور قريبا.
بالنسبة للإدارات الحكومية، فإن خلق هذه الرؤية يتعلق عادة بخدمة الجمهور ضمن تخصص الوزارة، فتلجأ بعض المؤسسات لإطلاق المبادرات والترويج لها وتدريب الموظفين عليها بحيث تتضمن مجموعة من البرامج والخدمات والأهداف، وفي عالمنا العربي تنجح المبادرات الجادة في حين تستخدم كثير من المبادرات للتلميع والعلاقات العامة، بينما الجوهر محدود ولا يتناسب مع "الكلام الكبير" المرتبط بها في الإعلام والخطابات الرسمية.
لكن بعض المفكرين الغربيين يقولون إن هذا طبيعي لأن المؤسسة الحكومية بالرغم من قدرتها على خلق تغيير لا يمكن للأفراد والقطاع العام إحداثه لوحدهم فإنها في النهاية مرتبطة بميزانيات وقدرات محدودة لموظفيها وأنظمة بيروقراطية لا بد منها، وهذا كله يمنع المؤسسات الحكومية من القدرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للمجتمعات في عصر التكنولوجيا وثورة المعلومات والرفاهية الفائقة.
الحل في رأي هؤلاء المفكرين أن تستفيد الإدارات الحكومية من ثورة الإنترنت في تطوير أساليبها في المبادرات وعلاج المشكلات وإشراك الجمهور في "الحكايات العظيمة"، حيث تطور الإنترنت من كونه موقعا يقدم المعلومات فقط (we 1.0) إلى أن أصبح "أرضية محايدة" Neutral Platform، حيث يشارك الناس بطرق متعددة في بناء الموقع ومعلوماته وقوته الجماهيرية ونجاحه التجاري كذلك.
بكلمات أخرى فإن ما يسمى الموجة الثانية لشبكة الإنترنت (Web 2.0) يقوم على مبدأ تقديم الأرضية وليس المعلومة أو الخدمة المباشرة، فمثلا موقع يوتيوب يقدم لك الفرصة لتضع فيديوهاتك على الإنترنت وتعليقاتك على الفيديوهات ليشاهدها الناس، وموقع فيسبوك يسمح لك بخلق صفحتك الخاصة وبرامجك وإعلاناتك وأخبارك، وبالتالي فإن الناس هم من يرسمون ملامح الرؤية المستقبلية للموقع وليس إدارة الموقع وحدها فقط.
هؤلاء المفكرون الإداريون يطالبون الإدارات الحكومية بتبني الثورة نفسها في التفكير، حيث تسعى الإدارة الحكومية لتقديم مبادرات تمثل الإطار الذي يسمح للقطاع الخاص والأفراد بالعمل والتطوير والإبداع وتلبية احتياجات الجمهور بينما يكون دور الموظف الحكومي هو التدخل فقط لتنظيم هذا الإطار العام وحل المشكلات. حسب هذه الرؤية، فإن الوزارة الحكومية لا تعلم بل تنظم تقديم الخدمات التعليمية من قبل الأفراد والقطاع الخاص، ولا تعالج بل تنظم تقديم الخدمات الصحية، وتوجد بنية التعاون بين المؤسسات الصحية، ولا تقدم الأفكار الجديدة بل تفتح الفرصة للمبدعين لتقديم وتنفيذ أفكارهم.
هؤلاء المفكرون استخدموا مصطلحا "إنترنتيا" لهذا النوع من الحكومات وهو الموجة الثانية للحكومة (Gov 2.0)، وهو يهدف ليكون مظلة لتطوير المبادرات الحكومية، حيث تصبح أرضية لجهد الجمهور والقطاع الخاص، وتصبح حاضنة محفزة للإبداع والأفكار الجديدة، ومظلة كذلك لكيفية استخدام التكنولوجيا لجعل المؤسسات الحكومية أكثر شفافية وإنتاجية، وكيف يمكن إيجاد نقاط التقاء بين ثقافة الإبداع التكنولوجي وثقافة التطوير التنموي والحكومي.
هذا يعني بجمل مختصرة أن تتحول المؤسسة الحكومية من مبان فيها عدد هائل من الموظفين الذين يقدمون الخدمات إلى هيئات تستخدم التكنولوجيا والإنترنت والمبادرات الجماهيرية ليشارك الجمهور في تقديم الخدمات لبعضهم بعضا، وفي الاستفادة الواسعة من المعلومات التي تقدمها المؤسسة الحكومية، وفي صياغة الأفكار الإبداعية (هذا الموقع يقدم لك المزيد حول هذه الفكرة: http://www.gov2summit.com.
هذه الرؤية بعيدة المدى ولا شك، ومن يترك المقال للحظات ويتأمل في حال بعض المؤسسات الحكومية فقد يرى عدم إمكان حصول ذلك عمليا، ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة تليها خطوات أخرى نحو البناء وتحقيق الحلم، ولعل أولى هذه الخطوات هي أن تفتح المؤسسات الحكومية أبوابها بطريقة منظمة وإيجابية لتلقي أفكار الجمهور الجديدة وفتح النقاش حولها بين الجمهور على الإنترنت.
لعلنا يوما نشارك جميعا في رواية الحكاية العظيمة..!
- الكاتب/ د.عمار بكار
- نقلاً عن صحيفة الاقتصادية