رب ضارة نافعة.. هكذا يقول الأقدمون. ونحن اليوم.. يحق لنا أن نسعد بأننا أدركنا كيف نكون أفضل.. بعد أن نازلنا الإرهاب والإرهابيين لأعوام أوشكت على بلوغ عقد من الزمان. ففعائل العنف والغلو والتطرف وما تقود إليه من إزهاق للأنفس وإفساد للأرض والممتلكات باتت رأي العين.
لدى كل ذي عقل رشيد. أمور تجعل الولدان شيبا، ويقف الناس حيالها حيارى يتساءلون: كيف يمكن لآحاد البشر أن يسعوا لإهلاك أهلهم وذويهم وبني جنسهم؟ لكنه (الهوى) و(عمى البصيرة) و(اختلال الموازين) و(اعتلال المقاييس) بالقدر الذي يحسب معه المفسدون أنهم (يحسنون صنعا). عانينا كثيرا.. من العنف الغلو والتطرف و(الإرهاب)، وعانى غيرنا ممن قاسمونا العيش في هذا الزمان. لكن لهذه (المعاناة) عوائد نافعة يجدر بنا أن نتلمسها.. لعلنا نكون ممن إذا أصابتهم ضراء صبروا فكان خيرا لهم. وسأعرض في هذه المداخلة اليوم لأمرين اثنين. الأول، أننا اليوم في حال بتنا فيها (جماعة) أقدر على استيعاب أهمية (وحدتنا الوطنية)، وتكتلنا المجتمعي في مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد كياننا وتسعى للنيل منه. فرغم محاولات الاختراق المتعددة والمتنوعة.. إلا أن الناس (كما يبدو) يزدادون إدراكا لحجم المعضلة المجتمعية فيما لو تم (فعلا) الاختراق (الفعلي) للكيان الاجتماعي، فكأن الناس باتوا أكثر منعة وأذكى فهما لاستيعاب أركان (اللعبة) الداخلية والخارجية التي تريد بنا سوءا. وبدت مظاهر للوعي الجديد يلحظها المراقبون للشأن العام، تجاذبتها (حقائق) بين منح المزيد من الولاء والثقة للقيادة السياسية من جانب، ومن جانب آخر طرح مجمل قضايا إرادات الاختراق ومناقشتها علنا.. وبمستوى نضج فكري وثقافي اجتماعي ما يفتأ أن يكون أفضل مع تقدم الزمان. إذا، يمكننا أن نقول إننا بمواجهتنا الحازمة للإرهاب.. أدركنا أن وحدتنا الوطنية (خط أحمر) لن نؤتى من خلاله. أما العائد الثاني، فأظن أننا قد أصبحنا اليوم أفضل وأجمل وأكمل من حالنا قبل الحادي عشر من أيلول بأحداثه (سيئة الذكر). فحيث كان يغذي العنف والتطرف عندنا (وعند الآخرين من حولنا) فكر إقصائي، أصبحنا.. عبر مِراسنا في مقارعة فكر الغلو والتطرف.. أقدر على (تفهم) حقيقة (بشريتنا) وأننا لا نزال (مختلفين)، وبدت الهوة بين طوائفنا الفكرية تقترب كثيرا من (فكر التعايش) الذي يمكنه أن يكون (مداد) عصر جديد تتلاشى فيه قوى الغلو والإقصاء واحتكار الحقيقة المطلقة إلى فضاءات أرحب وأوسع وأقدر على التعرف على المشترك، والتمييز بين (الثابت) و(المتغير) لتكثر (متغيراتنا) فنقبلها، و(تتحدد) (ثوابتنا) فلا يخوّن بعضنا بعضا حيالها. وندرك أننا مختلفون ما كان الاختلاف سنة خالقنا جل وعلا.. ومتفقون ما كان الاتفاق قدرنا في أمر مباح أو محرم أو مندوب أو مكروه. وأظن أننا مع مطلع الألفية الجديدة لم نكن كذلك أبدا، بل كان الصوت المسموع فينا صوتا واحدا غالبا.. والرأي الأصلح والأنسب رأي واحد كذلك.. والقول الفصل ليس إلا ما قاله آحادٌ من بيننا (منحناهم) أو أنهم (استمنحونا) الحق المطلق في أن يقولوا فنسمع لهم، وأن يفعلوا فنؤمّن لهم، وأن يمضوا فنتبعهم، وأن يقفوا فننتظر حراكهم الذي ما كان يأتي إلا وقد مضى البعيدون عنا فيه إلى مآرب أخرى. لكننا اليوم، وقد مضى من ذات الألفية عقدها الأول، أو أنه أوشك على المضي، ها نحن ندلف إلى واقع جديد بدت سماته تتحدد في أن تبايناتنا قد أصبحت مداد تواصلنا الثقافي وروح تجاذبنا الفكري في توجه أكثر نضجا لأن تتسع صدورنا لقبولٍ أكثر لاختلافاتنا. ويمكن الاستدلال على تحولنا المحمود هذا من فحص كثير من عباراتنا وجملنا ونعوتنا وتأويلاتنا عندما نتجاذب القول في ذات موضوع أو قضية، أو عندما نقارع حجج بعضنا.. فلا شك أننا اليوم نلحظ بيئة فكرية وثقافية أكثر نضجا. ومن جديد، ها هو صراعنا مع الإرهاب يقودنا لأن نكون أقدر على فهم تبايناتنا، لنتفق حول (حقيقة يبدو أنها باتت مطلقة عندنا).. أن لا مزايدة على ثوابتنا ولا على وطنيتنا.. ومن دون ذلك فلنتجاذب أطراف القضايا والموضوعات ولنتباين حولها ما شئنا.. فما أجمل تبايننا هذا.. وما أروع أن نطرح فيما بيننا (كل) آرائنا ونناقش (كل) قضايانا دون خوف ولا وجل، ودون وصاية بعضنا على بعضنا. فليذهب الإرهاب وليندحر الإرهابيون.. وليدركوا جيدا أنهم ما زادونا إلا ثباتا.
- الكاتب: الدكتور عبدالله الحمود