"التاريخ أسطورة متفق عليها" ـ نابليون بونابرت
"ليس الماضي ميتاً؛ بل هو ليس ماضياً أيضاً" ـ ويليام فوكنر
"لم يسبق أن اتفق مؤرخان على ما حدث؛ والمشكلة هي أن كل منهما يرى نفسه صادقاً" ـ هاري ترومان
ملاحظة تمهيدية
هذه المادة هي القسم الأول من: تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو الصراع الإسرائيلي العربي، على شبكة الشرق الأوسط .(MidEastWeb )
عن الجزء الثاني اضغط هنا تاريخ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، الجزء الثاني عملية السلام في أوسلو.
لعل التاريخ والتصورات المختلفة عنه من أهم العوامل في الصراع العربي الإسرائيلي إذ تُستخدم روايات التاريخ وتفسيراته بطرق مختلفة لتبرير مطالبات أو لنفي ادعاءات، أو لذم العدو وتمجيد "ما يخصنا". تمت كتابة عشرات التقارير؛ لكن غاية معظم ما نشر منها على الإنترنت هي الإقناع لا نقل المعلومات.
يهدف هذا العرض الموجز غاية الإيجاز إلى تقديم نظرةٍ متوازنة وتعريفٍ بالتاريخ الفلسطيني والإسرائيلي وبتاريخ هذا الصراع. فمن المستبعد أن أحداً كتب (أو سيكتب) بحثاً "موضوعياً" دقيقاً يقبله الجميع؛ ولكن الأمل معقود على أن تقدم هذه الوثيقة مدخلاً منصفاً إلى هذا الموضوع.
سيكون من الضلالة أن نحاول استخدام هذا التسجيل التاريخي لتحديد "الجانب المحق"، رغم أن الكثير من "كتب التاريخ" قد كتبها بالتأكيد المحازبون لهذا الجانب أو ذاك وفقاً لأهداف مسبقة. إن المهتمين بالدفاع عن وجهة نظرهم، وفي جمع "النقاط" لمصلحتهم، لا يمكنهم التوصل إلى الحقيقة إلا مصادفةً. وإذا ما توصلوا إلى حقيقة من الحقائق ثم وجدوا أنها لا تلائمهم فهم يسارعون إلى دفنها من جديد. ما من هدف لهذا السرد التاريخي إلا نقل المعلومات، لا أكثر ولا أقل. ثمة وثيقتان منفصلتان توضحان الكيفية التي أعتقد أننا يجب أن نجمع الحقائق ونعرف الصراع وفقاً لها؛ وهما توضحان أهمية الكلمات في كتابة تاريخ الشرق الأوسط، وفي فهمه أيضاً. وثمة عرض لتسلسل زمني لكثير من تفاصيل الأحداث التي لم تناقش في هذا التاريخ، وثمة وثائق مرجعية تقدم مزيداً من المعلومات. سيشير الدارسون الجادون إلى مراجع من أجل مزيد من المعلومات ووجهات النظر المختلفة، وسيبحثون دائماً عن المصدر الرئيسي من أجل التحقق مما إذا كان هذا الزعم أو ذاك قد اعتمد على تلك الوثائق أو على مقتطفات منها فحسب.
الجغرافيا والتاريخ المبكر لإسرائيل وفلسطين
إن الأرض التي تدعى إسرائيل وفلسطين بلد صغير (10.000 ميل مربع في الوقت الحاضر). تقع هذه الأرض على الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. وقد اختلفت مقوماتها خلال تاريخها الطويل إلى حد كبير، في مجالات المساحة والسكان وملكية الأرض. تشغل دولة إسرائيل في الوقت الراهن كل الأراضي الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. وتحدها مصر من الجنوب ولبنان من الشمال والأردن من الشرق. تشكل حدود إسرائيل المعترف بها نحو78٪ من الأراضي التي تسيطر عليها دولة إسرائيل الآن. وينقسم الجزء المتبقي إلى أراضٍ تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 (حرب الأيام الستة) ومناطق الحكم الذاتي الخاضعة للحكم الذاتي الفلسطيني. يشغل قطاع غزة 141 ميلاً مربعاً إضافياً في جنوب إسرائيل، ويخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية.
إن فلسطين مأهولة على نحو متواصل منذ عشرات الآلاف من السنين. ولا يزال يتم العثور على بقايا الإنسان منتصب القامة (هومو إيريكتوس) والإنسان البدائي (إنسان نياندرتال) وأنماط البشر الانتقالية بين الإنسان البدائي وإنسان العصر الحديث. وقد عثر علماء الآثار على قمح مهجن في أريحا يعود إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد مما يجعلها واحدة من أقدم مواقع النشاط الزراعي في العالم. دخل العموريون والكنعانيون، وغيرهم من الشعوب السامية ذات الصلة بفينيقيي صور، تلك الأرض نحو عام 2000 قبل الميلاد وأصبحت المنطقة تعرف باسم أرض كنعان.
مملكتا يهودا واسرائيل اليهوديتان القديمتان
تشير السجلات الأثرية إلى أن أصل الشعب اليهودي يعود إلى الكنعانيين والقبائل الغازية. ويعتقد أن شعباً سامياً يدعى "العبرانيون" هجر بلاد ما بين النهرين واستقر في بلاد كنعان ما بين 1800 - 1500 قبل الميلاد. تكون الكنعانيون من قبائل مختلفة من بينها ساميون وحثيون وفلسطينيون قدموا فيما بعد، وهم من الشعوب التي هاجرت عبر البحر، ويعتقد أنهم قدموا من مسينا، أو أنهم فرقة من الشعوب اليونانية القديمة التي استقرت في مسينا.
ويقول الكتاب المقدس إن موسى قاد الإسرائيليين، أو قسماً منهم، للخروج من مصر. وغزا أولئك بقيادة يوشع قبائل ومدن كنعان. واستنادا إلى ما ورد في الكتاب المقدس يمكن تخمين أن الملك داوود قد غزا القدس حوالي 1000 قبل الميلاد وأقام المملكة اليهودية على معظم أرض كنعان، بما في ذلك أجزاء من شرقي الأردن. وبعد وفاة سليمان بن داوود تم تقسيم المملكة إلى يهودا في الجنوب وإسرائيل في الشمال. وظلت القدس مركز السيادة والعبادة عند اليهود في أي وقت ساد فيه اليهود على البلاد لاحقاً، إلى أن تمرد اليهود في عام 133 ميلادية.
احتل الآشوريون إسرائيل في 722 أو 721 قبل الميلاد. وقد غزا البابليون يهودا نحو 586 قبل الميلاد ودمروا معبد سليمان في القدس وجرى نفي عدد كبير من اليهود. وبعد نحو 50 عاماً غزا الملك الفارسي قورش مملكة بابل. سمح قورش لمجموعة من اليهود في بابل بالعودة إلى القدس لبنائها والاستيطان فيها. ومع ذلك، ظل في بابل عدد كبير من اليهود شكلوا أول تجمع يهودي في الشتات. بعد إعادة إنشاء دولة، أو محمية يهودية، في فلسطين حافظ اليهود في المنفى البابلي على صلات مع السلطات في تلك الدولة. حكم الفرس تلك الأرض منذ نحو 530 حتى 331 قبل الميلاد ثم احتل الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية. بعد وفاته عام 323 قبل الميلاد اقتسم قادة جيوشه إمبراطوريته. وقد أرسى أحد هؤلاء القادة، وهو سلوقس، أسس حكم أسرته في جزء كبير من فلسطين نحو 200 قبل الميلاد. في البداية سمح الحكام الجدد المعروفون بالسلوقيين بممارسة الشعائر اليهودية. ولكن أحد ملوكهم وهو أنتيوخوس الرابع منع ممارستها في وقت لاحق. وفي 167 قبل الميلاد ثار اليهود تحت قيادة المكابيين بهدف إخراج السلوقيين من فلسطين أو بهدف إحراز قدر كبير من الاستقلال الذاتي وتشكيل المملكة وعاصمتها القدس. حظيت هذه المملكة "بحماية" رومانية في سنة 164 ق. م وفقاً لسجلات المؤرخين الرومان الذين قالوا إن يهوذا المكابي "صديق للشعب الروماني ولمجلس الشيوخ".
فلسطين من الحكم الروماني إلى الحكم العثماني
نحو عام 61 قبل الميلاد غزت القوات الرومانية بقيادة بومبي مملكة يهودا وحاصرت القدس دعماً للملك هيرودس. أصبحت يهودا تابعة لدولة روما. وقد حكمتها في البداية أسرة هيروديان المرتبطة بروما. جرت قسمة الأرض إلى مناطق يهودا والجليل وبيراي وقسم صغير من شرقي الأردن، كل منها في نهاية الأمر تحت السيطرة الرومانية المباشرة. ودعا الرومان القسم الأعظم من المنطقة الوسطى التي تشمل القدس باسم "يهودا". وفقاً للمعتقد المسيحي، ولد يسوع المسيح في بيت لحم، أي في يهودا، في السنوات الأولى من الحكم الروماني. أخمد الحكام الرومان تمرد اليهود في 70 م و 132 م. وفي سنة135 م طرد الرومان اليهود من القدس في أعقاب فشل تمرد "بار كوشبا". وفي ذلك الوقت أطلق الرومان اسم "فلسطين" على تلك المنطقة. إن اسم فلسطين مستمد من هيرودوت الذي استخدم مصطلح "فلسطين سورية" للإشارة إلى كامل الجزء الجنوبي من سورية. فرّ معظم اليهود الذين أرادوا مواصلة ممارسة شعائرهم الدينية، أو تم نفيهم من فلسطين بالقوة. وفي نهاية المطاف تشكل الشتات اليهودي الثاني. ومع ذلك، ظلت الجماعات اليهودية موجودة في الجليل شمال فلسطين بصورة أساسية. حكمت الإمبراطورية الرومانية فلسطين حتى القرن الرابع الميلادي (300) م، ثم حكمتها الإمبراطورية البيزنطية. انتشرت المسيحية آنذاك في معظم أرجاء فلسطين. وفي ذلك الوقت كان سكان فلسطين مؤلفين من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية والوثنية، والشعوب التي استوردها الرومان، وغيرهم ممن كانوا يستوطنون فلسطين بشكل دائم.
وفي أوائل القرن السابع الميلادي، تحركت الجيوش العربية الإسلامية في شمال شبه الجزيرة العربية وتمكنت من التغلب على معظم دول الشرق الأوسط، بما فيها فلسطين. تمّ فتح القدس عام 638 في عهد الخليفة عمر الذي أعطى الأمان لسكانها. سيطرت القوى الإسلامية على المنطقة حتى أوائل القرن العشرين. سمح الحكام للمسيحيين واليهود بالبقاء على دينهم. ومع ذلك، قبل معظم السكان المحليين الإسلام والثقافة العربية الإسلامية تدريجيا. وأصبحت أورشليم (القدس) موقعاً مقدساً عند المسلمين، حيث سرى محمد من مكة إلى القدس وعرج إلى السماء في ليلةِ معجزةٍ على حصانه البراق. وتم بناء المسجد الأقصى في الموقع الذي كان منطقة المعابد اليهودية.
احتل السلاجقة الأتراك القدس في عام 1071م ، ولكن حكمهم في فلسطين استمر أقل من 30 عاماً ثم حل محلهم الفاطميون. استفاد الفاطميون من معارك السلاجقة مع الصليبيين المسيحيين فتحالفوا مع الصليبيين في سنة 1098م واستولوا على القدس ويافا ومناطق أخرى من فلسطين.
ولكن الصليبيين نقضوا التحالف وغزوا فلسطين بعد نحو عام واحد فاحتلوا يافا والقدس في عام 1099م، وذبحوا الكثير من المدافعين اليهود والمسلمين، وحرّموا على اليهود العيش في القدس. ظل الصليبيون في القدس حتى سنة 1187م. وفي تلك السنة احتل الحاكم المسلم صلاح الدين مدينة القدس. راحت رقعة النفوذ الصليبي على امتداد ساحل فلسطين تتقلص تدريجياً بموجب معاهدة مع صلاح الدين؛ إلا أن الصليبيين نقضوا عهدهم مع صلاح الدين كما نقضوا العهود السابقة. سعت الحملات الصليبية المتتالية إلى الاستيلاء على القدس لكنها لم تتمكن من ذلك إلا لفترة وجيزة.
ترك الصليبيون فلسطين نهائياً عندما احتل المسلمون عكا سنة 1291م. وبعد الحقبة الصليبية، شن الصليبيون غارات كثيرة على ساحل فلسطين فسحب المسلمون مواطنيهم بعيداً عن السواحل ودمروا المدن الساحلية والمزارع لمنع الصليبيين من الحصول على مكاسب من هذه الغارات. وهذا ما أفقر شواطئ فلسطين وحرمها من سكانها عدة قرون.
وفي أواسط القرن الثالث عشر أنشأ المماليك، وهم أصلاً جنود أرقاء لدى العرب في مصر، إمبراطورية شملت منطقة فلسطين. كان المسلمون الناطقون بالعربية يشكلون معظم سكان هذه المنطقة التي حملت اسم فلسطين. واعتباراً من أواخر القرن الرابع عشر، استقر في القدس وأجزاء أخرى من الأرض الفلسطينية يهودٌ من اسبانيا والبلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط. هزمت الإمبراطورية العثمانية المماليك في عام 1517م ، وصارت فلسطين جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. دعا السلطان التركي اليهود الهاربين من محاكم التفتيش الكاثوليكية الأسبانية إلى الاستقرار في الإمبراطورية التركية، بما في ذلك العديد من المدن في فلسطين.
دخل نابليون أرض فلسطين في عام 1798م. أدت الحرب مع نابليون وما تلاها من ضعف سيطرة الحكام المصريين والعثمانيين إلى تراجع عدد سكان فلسطين. هرب العرب واليهود إلى مناطق أكثر أماناً وازدهاراً. ولعل ثورات العرب الفلسطينيين ضد الحكم العثماني في مصر كانت آنئذٍ عاملاً مساعداً على تحفيز المشاعر الوطنية الفلسطينية. تلا ذلك إعادة تنظيم الإمبراطورية التركية وانفتاحها على الأجانب من أجل الحفاظ على ما أمكن من النظام. وفي هذا السياق سمح العثمانيون ببدايات الاستيطان اليهودي الذي تمّ بقيادة حركات صهيونية عديدة. ازداد عدد العرب واليهود في عام 1880م ، إذ كان يعيش في فلسطين زهاء 24،000 يهودي من أصل مجموع السكان البالغ نحو 400،000. في ذلك الوقت فرضت الحكومة العثمانية قيوداً صارمة على الهجرة اليهودية وعلى شراء الأراضي؛ وبدأت أيضاً بدعوة نشطة للمسلمين من أجزاء أخرى من الإمبراطورية العثمانية للاستقرار في فلسطين. شملت الدعوة الشركس والبوسنيين. تملص اليهود الذين أرادوا الاستيطان في فلسطين من القيود المفروضة عليهم، وذلك عن طريق الرشوة بصورة رئيسية.
ظهور الصهيونية ـ لم يتوقف توافد اليهود إلى "الأرض المقدسة" أو فلسطين بأعداد صغيرة من جميع أنحاء المنفى. ظلت فلسطين مركز العبادة اليهودية، وجزءاً من الثقافة اليهودية. ومع ذلك فإن ارتباط اليهود بهذه الأرض كان في معظمه ارتباطاً نظرياً ذا صلةٍ بأحلام الخلاص على يد المسيح المنتظر.
وفي القرن التاسع عشر نشّطت التيارات الاجتماعية الجديدة حياة اليهود. إن انعتاق يهود أوروبا الذي كانت الثورة الفرنسية بداية له هو أخرج اليهود من معازلهم إلى العالم الحديث ووضعهم أمام أفكار جديدة. اختلطت المفاهيم الليبرالية التي أدخلها التحرر والأفكار القومية الحديثة مع أفكار اليهود التقليدية حول إسرائيل وصهيون. ظهر التزاوج بين "محبة صهيون" وبين المفاهيم القومية الحديثة في صفوف السفارديم في أوروبا (اليهود الأسبان والشرقيون) أول الأمر. وعند ذلك أصبحت فكرة العيش في الأرض اليهودية والعودة إلى صهيون هدفاً عملياً أكثر من التطلع إلى المسيح المنتظر، وكانت العبرية لغة حية. نشر الحاخام يهودا الكالاي الذي عاش في ما يعرف الآن بيوغوسلافيا أول الكتابات الصهيونية في أربعينيات القرن التاسع عشر. ورغم أن ذلك طواه النسيان عملياً، فإن هذه الأفكار قد شاعت بين عدد قليل من يهود أوروبا. استثار تحرر اليهود حركة سياسية واجتماعية معادية لليهود في أوروبا، ولاسيما في ألمانيا وأوروبا الشرقية. وابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، شكل اضطهاد أوروبا الشرقية لليهود حافزاً دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين.
أصبحت الحركة الصهيونية منظمة رسمية في عام 1897 وذلك بانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي نظمه تيودور هرتزل في بال. كان جد هرتزل مطلعاً على كتابات الكالاي. ومن المحتمل جداً أن هرتزل نفسه تأثر بها. عبّر الصهاينة عن رغبتهم في إقامة "وطن لليهود" في فلسطين في ظل سيادة تركية أو ألمانية. في بادئ الأمر، لم يكن وجود السكان العرب يشغل بال اليهود إذ تجاهلوا ذلك الوجود أو اعتقدوا أن العرب سيوافقون على الانتقال طوعاً إلى بلدان عربية أخرى. ولعلهم تصوروا أن فلسطين ستستقبل ملايين اليهود من أوروبا وأن هؤلاء سرعان ما يصبحون أغلبية كبيرة في تلك الأرض. أنشأ الصهاينة مزارع تعاونية في مناطق متعددة من فلسطين: في بتاح تكفا وزخرون يعقوب وريشون ليتسيون، وغيرها. وأقاموا في وقت لاحق مدينة تل أبيب الجديدة إلى الشمال من يافا. في الوقت نفسه ازداد عدد السكان العرب في فلسطين زيادة سريعة. بلغ مجموع سكان فلسطين قبل عام 1914م نحو 700000 نسمة. وكان فيهم 615000 من العرب و85000-100000 من اليهود.
الحرب العالمية الأولى ـ انضمت الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ، إلى ألمانيا والنمسا والمجر في مواجهة الحلفاء. وكانت تحكم فلسطين حكومة عسكرية عثمانية. كانت الحرب قاسية على كل من السكان اليهود والعرب نظرا لتفشي الكوليرا والحمى التيفية؛ إلا أنها كانت أكثر صعوبة بالنسبة لليهود. ولبعض الوقت، أمر الحاكم العسكري التركي باعتقال وترحيل جميع الرعايا الأجانب. كان في فلسطين عدد كبير من المواطنين اليهود الروس الذين تمكنوا من دخول فلسطين بصفتهم هذه بسبب الامتيازات التي منحتها تركيا للروس. وقد استخدم اليهود هذه الطريقة للتغلب على القيود المفروضة على الهجرة، وحافظوا أيضاً على الجنسية الروسية لتجنب تجنيدهم في الجيش التركي. وهكذا، فإن عدداً كبيراً من اليهود أجبروا على الفرار من فلسطين أثناء الحرب. أسست مجموعة صغيرة هي(NILI )(هذ اختصار للعبارة العبرية נצח ישראל לא ישקר التي تلفظ بالانكليزية: Netzakh Yisrael Lo Yishaker وتعني: لن تسقط إسرائيل حتى الأزل. المصدر: ويكيبيديا ) تعمل في الخفاء وتقدم معلومات استخباراتية إلى البريطانيين من أجل تحرير الأرض من الحكم التركي. تمكن الأتراك في نهاية المطاف من القبض على بعض أعضاء هذه الجماعة، ولكن يقال إن المعلومات التي قدموها ساعدت في نجاح الغزو البريطاني.
خططت بريطانيا وفرنسا لاقتسام الممتلكات العثمانية في الشرق الأوسط فيما بينهما بعد الحرب. ودعا اتفاق سايكس بيكو عام 1916 إلى إخضاع جزء من فلسطين للحكم البريطاني وإخضاع جزء آخر منها للحلفاء، على أن تكون سورية ولبنان لفرنسا. غير أن بريطانيا عرضت بعد الحرب دعم المطالب العربية في الاستقلال عن العثمانيين، وذلك مقابل الدعم العربي للحلفاء. ويبدو أنها قد وعدت العرب بالأقاليم نفسها. في عام 1916 ثار العرب ضد العثمانيين بقيادة ت. ي. لورانس وبدعم من الشريف حسين معتقدين أن بريطانيا ستساعد على ترسيخ استقلال الدول العربية في الشرق الأوسط. لقد بالغ لورانس في أهمية الأعمال البطولية التي قام بها في الحرب ضد تركيا كما بالغ في ذلك الخبير المقدام لويل توماس. ضغطت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان من أجل حق العرب في تقرير مصيرهم. ظن العرب، ومثلهم كثيرون في الحكومة البريطانية بمن فيهم لورنس، أن ثمة تغييراً قد يطرأ على الوعد البريطاني لفرنسا بالحصول على سورية، وكذلك فيما يتعلق بالوعد بفلسطين كوطن لليهود. ادّعى العرب أن فلسطين تقع ضمن المنطقة التي وُعدوا بها، ولكن بريطانيا نفت ذلك.
الانتداب البريطاني على فلسطين
وعد بلفور ـ في تشرين الثاني / نوفمبر 1917 ، قدمت بريطانيا وعد بلفور، قبل أن تحتل القدس والمنطقة المعروفة باسم فلسطين. كان هذا الوعد رسالة موجهة إلى اللورد روتشيلد بناء على طلب من المنظمة الصهيونية في بريطانيا العظمى. أكد الإعلان على دعم بريطانيا إنشاء "وطن" لليهود في فلسطين، دون انتهاك الحقوق المدنية والدينية القائمة لغير اليهود الموجودين فيها. جاء الإعلان نتيجة ضغط من جانب حركة صهيونية بريطانية صغيرة، وخاصة من جانب الدكتور حاييم وايزمن الذي هاجر من روسيا إلى بريطانيا؛ ولكن الدافع إليها كان الاعتبارات الإستراتيجية البريطانية. ولعلها مفارقة أن يكون الدافع الأساسي للإعلان هو اعتقاد مستوحى من معاداة السامية مفاده أن يهود العالم من شأنهم أن يهبوا لمساعدة البريطانيين إذا ما أعلنوا عن وعد بإقامة وطن لليهود. وقد خشي البريطانيون أن يسبقهم الألمان إلى إصدار هذا الوعد.
في مؤتمر باريس عام 1919، دافع ممثلو الصهاينة والعرب، كل عن قضيته، واجتمعوا معاً. قدم الصهاينة خريطة المنطقة التي يطالبون بها من أجل الوطن القومي اليهودي. وتجدر الإشارة إلى أن د. وايزمان والأمير فيصل توصلا إلى اتفاق بشأن دعم العرب إقامة وطن قومي يهودي، ووقعا على هذا الاتفاق. كما أكد فيصل لممثل الصهاينة الأمريكيين، القاضي فرانكفورتر، تأييده للقضية الصهيونية (انظر: مراسلات فيصل ـ فرانكفورتر). لكن فيصل اشترط لهذا التأييد تلبية التطلعات العربية في سورية.
جرى توزيع الشطر الأكبر من الدولة العثمانية في مؤتمر باريس من خلال عصبة الأمم، وذلك إلى مناطق انتداب توزعت على المنتصرين في الحرب. رأى البريطانيون والفرنسيون في الانتداب وسيلة لتحقيق طموحات استعمارية. أكد الرئيس الأميركي ويلسون أن الانتداب يجب أن يعزز الاستقلال في نهاية المطاف. كان البريطانيون حريصين على إبقاء فلسطين بعيدة عن الفرنسيين؛ وقرروا أن يطالبوا بإقامة انتدابهم على الولاية التي من شأنها أن تقيم الوطن القومي لليهود الذي نص عليه وعد بلفور، وهو المشروع الذي يمكن أن يحظى بدعم أميركي. عارض العرب فكرة إنشاء "وطن" لليهود، بالنظر إلى أن المناطق التي تسمى الآن فلسطين هي أرضهم. شعر العرب بأنهم مهددون بخطر الطرد من قبل الصهاينة، وبأنهم لا يرغبون في العيش تحت حكم اليهود.
ضغط العرب على لجنة كينغ كرين الأمريكية لجهة ضم فلسطين إلى ولاية سورية، وشكلوا بعد ذلك حركة وطنية لمقاومة شروط الانتداب. وبمبادرة من الرئيس الأميركي ويلسون تم إرسال لجنة كنغ كرين للاستماع إلى آراء السكان. وقد أعرب عارف باشا الدجاني أمام لجنة الاستماع عن أفكاره بشأن اليهود فقال: "يثبت ماضيهم وتاريخهم أن التعايش معهم مستحيل. فهم غير مرغوبين في جميع البلدان التي يتواجدون فيها في الوقت الحاضر ،... لأنهم دائمًا يأتون لامتصاص دماء الجميع.."
في ذلك الحين، كان الصهاينة قد أدركوا حتمية الصراع مع الفلسطينيين والعرب الآخرين. كان ديفيد بن غوريون زعيم المجتمع اليهودي في فلسطين (الييشوب) (بالعبرية ישוב وتعني المستوطنة) كلمة عبرية تستعمل للإشارة إلى السكان اليهود في فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل الحديثة). استخدمت الكلمة في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما كان عدد اليهود في فلسطين خمسة وعشرين ألفًا تقريبًا، واستمر استخدامها حتى 1948 حيث بلغ عددهم سبعمائة ألف، وتستعمل اليوم للإشارة إلى اليهود الذين سكنوا فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل في 1948 )، واستمر في ذلك حتى أصبح أول رئيس وزراء لإسرائيل. وقد ذكر أمام اجتماع لمجلس إدارة ييشوب في عام 1919م: "لا يرى الجميع أنه لا يوجد حل لهذه المسألة... نحن كأمة ، نريد لهذا البلد أن يكون لنا ، والعرب كأمة ، يريدون لهذا البلد أن يكون لهم".
عرض الصهاينة وغيرهم قضيتهم على مؤتمر باريس للسلام. وفي نهاية المطاف، تم اعتماد الخطة البريطانية. وكانت القضايا الرئيسية التي تم أخذها في الاعتبار هي تقسيم الحقوق بين بريطانيا وفرنسا لا الاهتمام بوجهات نظر السكان.
في عام 1920 كان لبريطانيا انتداب مؤقت على فلسطين شمل غرب وشرق نهر الأردن. إن منطقة الانتداب البريطاني (انظر الخارطة) التي أقرها مؤتمر سان ريمو أكبر بكثير من فلسطين التاريخية التي يتصورها الصهاينة الذين أرادوا أن تكون حدودها الشرقية إلى الغرب من عمان. تم الانتداب رسمياً، على أساس وعد بلفور، في عام1922 م. كان على البريطانيين مساعدة اليهود في بناء وطن قومي وتشجيع إنشاء مؤسسات الحكم الذاتي. وقد ساعد الانتداب على إنشاء وكالة، عرفت فيما بعد باسم "الوكالة اليهودية لفلسطين"، تمثل المصالح اليهودية في فلسطين أمام بريطانيا وتشجع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. تأخر إنشاء الوكالة اليهودية حتى عام 1929 بسبب الرغبة في إنشاء هيئة يتمثل فيها كل من الصهاينة واليهود غير الصهاينة. وأصبحت الوكالة اليهودية في فلسطين هي الحكومة الفعلية للمجتمع اليهودي من العديد من الجوانب.
كانت المنطقة الممنوحة للانتداب أكبر بكثير من المنطقة التي طلبها الصهاينة. ومن الممكن ، كما افترض تشرشل في عام 1922 ، أن البريطانيين لم تكن لديهم النية مطلقاً في أن تصبح كل هذه المساحة وطناً لليهود. وفي المقابل ، ثمة من يرى أنه لم يكن لدى بريطانيا خطط خاصة تتعلق بشرقي الأردن في البداية. ، كتب ممثل بريطانيا في عمان السير أليك كيركرايد في مذكراته "ما من نية في هذه المرحلة [1920] في تشكيل إقليم إلى الشرق من نهر الأردن وتحويله إلى دولة عربية مستقلة". (كيركرايد، الكسندر، "أجمة من الشوك"، لندن، 1956، ص 19).
بيد أن عبد الله ، نجل ملك الحجاز حسين ، سار من الحجاز مع ألفي جندي إلى شرقي الأردن. وأعلن عزمه على المضي إلى دمشق وإجلاء الفرنسيين وإعادة الحكم الملكي الهاشمي. وكان لدى السير أليك كيركبرايد 50 شرطياً فطلب توجيهات المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل. ردّ صموئيل في نهاية الأمر أنه من غير المستحب أن يدخل عبد الله المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية. بعد ذلك بيومين سار عبد الله من الشمال. وبحلول آذار / مارس 1921 ، احتل البلاد كلها. لم يقم عبد الله بأية محاولة للسير إلى دمشق، ولعله ما كان ينوي فعل ذلك.
في عام 1922 أعلنت بريطانيا أن حدود فلسطين ستقتصر على المنطقة الواقعة إلى الغرب من النهر. وسميت المنطقة الشرقية من النهر، شرقي الأردن (الأردن حالياً). وكانت منطقة انتداب بريطانية مستقلة ما لبثت أن منحت الاستقلال (انظر الخارطة). شعر جزء من الحركة الصهيونية ، بالخيانة لفقدان مساحة واسعة مما أسموه "فلسطين التاريخية"، وهي الضفة الشرقية لنهر الأردن. وانشقت مجموعة لتشكيل حركة "المراجعة" برئاسة بنيامين فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي.
أمل البريطانيون في إنشاء مؤسسات الحكم الذاتي في فلسطين وفقاً لما يقتضيه الانتداب. تم تنبيه اليهود للآفاق التي يمكن أن تنشأ عن مثل هذه المؤسسات التي ستضم أغلبية عربية. ومع ذلك ، فإن العرب لم يكونوا ليقبلوا مقترحات بإنشاء هذه المؤسسات إن كانت تضم أي يهودي على الإطلاق، ولذلك لم تقم تلك المؤسسات. أراد العرب أقل تعامل ممكن مع اليهود ومع الانتداب فلم يشاركوا في المجالس البلدية ولا حتى في الوكالة العربية التى أرادت بريطانيا إقامتها. وخلص أورسي غور وزير المستعمرات البريطاني إلى أن "فلسطين مسكونة بعدد غير معقول من السكان"
أعمال الشغب العربية والهجرة اليهودية ـ في ربيع عام 1920، ثم في ربيع 1921 وصيف 1929، واجه القوميون العرب وعد بلفور والانتداب والوطن القومي اليهودي، وحرضوا على أعمال الشغب وعلى مذابح لليهود في القدس والخليل ويافا وحيفا. أدى هذا العنف إلى تكوين منظمة الهاغانا اليهودية للدفاع عن النفس في عام 1920. تعكس أعمال الشغب التي وقعت عام 1920 وعام 1921 معارضةً لوعد بلفور ومخاوف من أن السكان العرب في فلسطين سيجردون من أراضيهم. ولعلها كانت محاولة لجعل البريطانيين يرون أنهم لا يستطيعون حكم فلسطين إذا ما جرى اعتبارها وطناً لليهود. كان أهم المحرضين الحاج أمين الحسيني الذي صار مفتي القدس في وقت لاحق، والذي تعاون مع النازيين في نهاية المطاف، وكذلك عارف العارف، وهو صحفي فلسطيني بارز. وفي عام 1929 وقعت أعمال شغب على خلفية العداء القومي بين اليهود والعرب. أوضح العرب أن الهجرة اليهودية وشراء الأراضي يشردان العرب ويجردانهم من فلسطين. ومع ذلك، فإن المؤشرات الاقتصادية والسكانية وغيرها تشير بموضوعية إلى أن السكان العرب في فلسطين قد استفادوا من الانتداب ومن الاستثمارات الصهيونية. كان تحسن مستوى المعيشة في فلسطين أسرع مما هو عليه في غيرها من المناطق. وازداد عدد السكان بشكل هائل أثناء فترة الانتداب. كما كانت الشائعات الكاذبة بأن اليهود عقدوا النية على بناء كنيس في حائط المبكى أو على الاعتداء على سيطرة المسلمين على جبل الهيكل، بما في ذلك المسجد الأقصى، تغذي أعمال الشغب. وقد أدت المذابح إلى إجلاء غالبية أبناء الجالية اليهودية في الخليل.. وردّت بريطانيا بكتاب باسفيلد الأبيض الذي كان محاولة لوقف الهجرة إلى فلسطين على أساس توصيات تقرير هوب سمبسون. ذكر التقرير أنه في أفضل الأحوال، وحتى لو جرت تنمية اقتصادية شاملة، لا يمكن أن تستوعب الأرض أكثر من 20000 أسرة مهاجرة أخرى. كما أن من شأن مزيد من الهجرة اليهودية أن يمثل اعتداءً على وجود السكان العرب. بيد أن أعضاء البرلمان البريطاني والحركة الصهيونية انتقدوا السياسة الجديدة بحدة، وأوضح رئيس الوزراء رامسي ماكدونالد أن الهجرة اليهودية لن تتوقف.
تضخمت الهجرة اليهودية في ثلاثينيات القرن العشرين بسبب الاضطهاد في أوروبا الشرقية، حتى قبل صعود النازية. بدأت أعداد كبيرة من اليهود تفد من بولندا بسبب القوانين التمييزية والظروف الاقتصادية الصعبة. ثم رفد صعود هتلر في ألمانيا هذا المد من الهجرة. قامت الوكالة اليهودية بتوقيع اتفاق هسدر الذي سمح لليهود بالهرب من ألمانيا إلى فلسطين مقابل العملات الصعبة التي يحتاجها الرايخ. وهكذا أنقذ اتفاق هسدر عشرات الآلاف من الأرواح.
الثورة العربية والكتاب الأبيض ـ اندلعت أعمال شغب واسعة النطاق في عام 1936، وعرفت فيما بعد باسم الثورة العربية الكبرى. اشتعل التمرد عندما قتلت القوات البريطانية عز الدين القسام في اشتباك مسلح. كان عز الدين القسام داعيةً سورياً هاجر إلى فلسطين وعمل على استثارة المشاعر العامة ضد البريطانيين واليهود. وقد دعمت أسرة الحسيني هذا التمرد، كما دعمه فوزي القاوقجي الضابط السابق في الجيش التركي؛ ولعل التمرد حظي بتمويل جزئي من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. قتل آلاف العرب ومئات اليهود أثناء التمرد الذي اتسع نطاقه بسرعة بسبب عدم الاستعداد الأولي للسلطات البريطانية. اضطر نحو نصف القاطنين اليهود في الحي اليهودي بالقدس القديمة البالغ عددهم خمسة آلاف إلى الفرار من منازلهم وتم نقل من تبقى من الجالية اليهودية في الخليل أيضاً.
أقدمت عائلة الحسيني على قتل اليهود وأعضاء الأسر العربية الفلسطينية التي تعارض هيمنتها أيضاً. ردت إيشوب (الجالية اليهودية) بتدابير دفاعية وبإرهاب عشوائي وتفجيرات استهدفت المدنيين من العرب. نفذت هذه الأعمال منظمات إرغون وتسيفي ليئومي ايستل. وكانت ايستل منظمة عسكرية سرية للجناح اليميني المنشق من "مجموعة المراجعين" أول من قادها فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي الذي انفصل عن الحركة الصهيونية؛ ثم تزعمها مناحيم بيغن في وقت لاحق. أوصت لجنة بيل عام 1937 بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية صغيرة وأخرى عربية كبيرة. كما شملت توصيات اللجنة إجراء نقل ملكية طوعي يقوم به اليهود والعرب للفصل بين السكان. احترمت القيادة اليهودية الخطة، ولكن القيادة الفلسطينية والعربية (بمن فيها الملك سعود في المملكة العربية السعودية) رفضت التقسيم وطالبت بريطانيا بتقليص الهجرة اليهودية. وقال سعود إنه إذا أخفق البريطانيون في تحقيق مطالب العرب في فلسطين فإن العرب سوف ينقلبون عليهم ويصطفون إلى جانب أعدائهم. وقال إن العرب لا يفهمون "الموقف الغريب لحكومتكم البريطانية. بل إن ما هو أكثر غرابة هو التأثير المغناطيسي لليهود، هذا الجنس الذي لعنه الله في كتابه الكريم وكتب عليه الدمار واللعنة الأبدية. والظاهر أنهم يتحكمون بكم وبالشعب الانكليزي عامةً".
استجابة لهذا التمرد بدأ البريطانيون بالحد من الهجرة. وقضى الكتاب الأبيض لعام 1939 بالسماح لـ 15000 من اليهود بدخول فلسطين كل سنة، وذلك لمدة خمس سنوات. بعد ذلك، ستكون الهجرة خاضعة لموافقة العرب. وفي الوقت نفسه، اتخذ البريطانيون خطوات جذرية وقاسية في كثير من الأحيان للحد من أعمال الشغب. فرّ الحسيني إلى العراق ، حيث شارك في محور يدعم الانقلاب على بريطانيا، ثم توجه إلى ألمانيا النازية حيث عمل لاحقاً مذيعاً لصالح قوات المحور. وكان نشطاً في مجال الحد من الهجرة اليهودية من البلدان المحايدة، ونظّم فرق SS التي كانت فرقاً للموت في يوغوسلافيا.
المحرقة ـ انضم كثير من العرب الفلسطينيين واليهود إلى قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) رغم أن بعض القادة الفلسطينيين والعرب كانوا متعاطفين مع النازية. كان لليهود دوافع خاصة لمحاربة النازيين بسبب الاضطهاد النازي لليهود وتزايد الشكوك في أن النازيين كانوا يحضرون لإبادة يهود أوروبا. تأكدت هذه الشكوك لاحقاً وأصبحت إبادة يهود أوروبا تعرف باسم الهولوكوست. خلق التهديد بالإبادة ضغطاً هائلاً للهجرة إلى فلسطين. ولكن أبواب فلسطين كانت مغلقة بفعل كتاب البريطانيين الأبيض. في عام 1941 حرر البريطانيون قادة الهاغانا اليهودية السريين في عفو عام فانضموا إلى بريطانيا في معاركها مع الألمان.
الهجرة غير الشرعية ـ رد يهود فلسطين على الكتاب الأبيض والهولوكوست بتنظيم الهجرة غير الشرعية من أوروبا إلى فلسطين المحتلة من خلال "مؤسسة الهجرة غير الشرعية" التي نظمتها الوكالة اليهودية بين عامي 1939 و1942. ولم يكن ذلك حلاً عملياً عندما شدّد البريطانيون الحصار وتم فرض قيود أكثر صرامة في أوروبا المحتلة ثم بين عامي 1945 و1948. حاولت قوارب بائسة مليئة باللاجئين الوصول إلى فلسطين. كما كانت هناك مبادرات خاصة: مبادرة من النازيين لترحيل اليهود، ومبادرة من الولايات المتحدة لإنقاذ يهود أوروبا. غرقت سفن عديدة، وألقي القبض على سفن أخرى من جانب بريطانيا أو النازيين فأعيدت من حيث أتت أو تم توجيهها إلى موريشيوس أو جهات أخرى حيث ظل ركابها رهن الاعتقال. حملت سفينة باتريا (وتسمى أيضاً "باترا") مهاجرين تم نقلهم إليها من ثلاث سفن أخرى لنقلهم إلى جزيرة موريشيوس. ولمنع هذا النقل وضعت الهاغانا عبوة متفجرة صغيرة على متن السفينة في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1940. واعتقد عناصر الهاغانا أن من شأن الانفجار أن يلحق الضرر بالمحركات، لكن السفينة غرقت ولقى أكثر من 250 شخصاً حتفهم. وبعد أسابيع قليلة، رست في حيفا السفينة "إس إس بلغاريا" وعلى متنها 350 لاجئاً يهودياً تلقوا أوامر بالعودة إلى بلغاريا. انقلبت السفينة العائدة في المضائق التركية مما أسفر عن مقتل 280 شخصاً من ركابها. غادرت السفينة ستروما ميناء كونستانتا في رومانيا حاملةً نحو 769 لاجئاً يهودياً فوصلت إلى اسطنبول في 16 ديسمبر 1941. واضطرت هناك لإصلاح المحرك وإغلاق فجوة يتسرب منها الماء. لم يمنح الأتراك ملاذاً للاجئين. ولم يوافق البريطانيون على توجيه السفينة إلى موريشيوس أو على رسوها في فلسطين. وفي يوم 24 فبراير 1942 ، أمر الأتراك السفينة ستروما بمغادرة المرفأ. غرقت السفينة وتم فقدان 428 رجلاً و 269 امرأة و 70 طفلاً، وذلك بعد أن نسفتها غواصات سوفييتية إما لأنها ظنتها سفينة نازية أو، وهذا مرجح، لأن الروس وافقوا على التعاون مع بريطانيا في منع الهجرة اليهودية. استمرت الهجرة غير الشرعية حتى وقت متأخر من سنوات الحرب. لكن الظاهر أنها كانت من غير مشاركة "مؤسسة الهجرة اللاشرعية". وعلى الرغم من النكسات الكثيرة، فقد أنقذت الهجرة اللاشرعية عشرات الآلاف من اليهود.
إعلان بيلتمور ـ ازداد تواتر أخبار الأعمال الوحشية التي ارتكبها النازيون. وعلى الرغم من الحاجة الماسة لإيجاد مأوى للاجئين ،بقيت أبواب فلسطين مغلقة أمام هجرة اليهود. اجتمعت القيادة الصهيونية عام 1942 في فندق بيلتمور في مدينة نيويورك وأعلنت أنها تؤيد جعل فلسطين كومنولثاً يهودياً. هذا ليس مجرد عودة إلى وعد بلفور البريطاني الذي تنكر له الكتاب الأبيض بل هو إعادة رسم للأهداف الصهيونية بما يتجاوز وعد بلفور، وإصرارٌ على أن بريطانيا، من حيث المبدأ، عدوٌ يتعين محاربته أكثر مما هي حليف لليهود.
اغتيال اللورد موين ـ في 6 تشرين الثاني، قام عضوان في منظمة ليهي اليهودية السرية، هما إلياهو حكيم وإلياهو بيتزوري باغتيال اللورد موين في القاهرة. كان موين معروفاً بمناهضة الصهيونية وكان وقتها وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط والمسؤول عن تنفيذ الأحكام الواردة في الكتاب الأبيض لعام 1939، أي منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين باستخدام القوة. كما كان أيضاً صديقاً شخصياً لونستون تشرشل. لم يغير هذا الاغتيال السياسة البريطانية، لكنه حوّل ونستون تشرشل إلى معادٍ للصهاينة. تم اعتقال حكيم وبيتزوري ثم أعدمهما البريطانيون شنقاً سنة 1945.
سيزون ـ اعتقدت الوكالة اليهودية والإدارة الصهيونية أن رد فعل بريطانيا والعالم على اغتيال اللورد موين يمكن أن يعرض التعاون مع أولئك للخطر بعد انتهاء الحرب (وقد ألمح البريطانيون إلى هذا) كما يمكن أن يشكل ذلك خطراً على الجالية اليهودية في فلسطين إذا اعتبرها البريطانيون عدواً لهم ولحلفائهم. لذلك شرعت المنظمتان في حملة استهدفت منظمتي ليهي وإرغون. تعرف هذه الحملة باسم سيزون ("موسم").كان لا بد من التخلص من الأعضاء السريين. ألقت الهاغانا القبض على القادة وتم استجوابهم وتعذيبهم أحياناً، كما تم تسليم نحو ألف شخص إلى البريطانيين.
المشردون ـ تبين بعد الحرب أن الألمان قد قتلوا نحو ستة ملايين يهودي أوروبي في المحرقة (الهولوكوست). كان هؤلاء الأشخاص محاصرون في أوروبا إذ لم يمنحهم أي بلد إمكانية اللجوء. رأى الصهاينة أن القيود البريطانية المفروضة على الهجرة إلى فلسطين تزهق مئات الآلاف من الأرواح. وكان اليهود يائسين من جلب ما تبقى من يهود أوروبا إلى فلسطين إذ تم احتجاز نحو ربع مليون شخص في مخيمات المشردين.
المقاومة المتحدة ـ في صيف عام 1945 ، تولى حزب العمال السلطة في بريطانيا العظمى. وكان قد وعد بإلغاء الكتاب الأبيض البريطاني ويدعم وجود دولة يهودية في فلسطين. إلا أنه نكث بوعده هذا وواصل الجهود الرامية إلى وقف الهجرة اليهودية، بل ضاعفها. حاولت الهاغانا جلب المهاجرين إلى فلسطين بصورة غير قانونية. وتوحدت الجماعات الصهيونية المتنافسة، ولا سيما الجماعات الإرهابية المنشقة عن أرغون وليهي ( "عصابة شتيرن") واستخدمت القوة في محاولة لطرد البريطانيين من فلسطين. وشمل ذلك تفجير القطارات ومحطاتها ومقر نادي الضباط البريطانيين ومقر القيادة البريطانية في فندق الملك داوود، وكذلك خطف الموظفين البريطانيين وقتلهم. بدأ السياسيون والصحف في بريطانيا يطالبون الحكومة بتسوية النزاع ووقف تعريض حياة الجنود البريطانيين للخطر.
مارست الولايات المتحدة ودول أخرى الضغط على بريطانيا للسماح بالهجرة. وأوصت لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية بالسماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين على الفور. ضغط العرب على بريطانيا لوقف هذه الهجرة. ووجد البريطانيون أن فلسطين غير سهلة القياد ، وفوضوا أمر الانتداب إلى الأمم المتحدة التي خلفت عصبة الأمم. قدم تقرير اللجنة الأنجلو أمريكية ملخصاً تفصيلياً لفترة الانتداب البريطاني وللوضع الأمني في فلسطين، فضلاً عن تقرير عن نتائج المحرقة وحال يهود أوروبا.
التقسيم ـ أوصت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشأن فلسطين (UNSCOP) بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية. ودعت إلى وضع القدس تحت الإدارة الدولية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعتمدت هذه الخطة يوم 29 تشرين الثاني 1947 فأصدرت القرار رقم 181. وكان من وراء صدور ذلك القرار الدعم الذي قدمه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وعلى وجه الخصوص الدعم الشخصي الذي قدمه الرئيس الأمريكي هاري ترومان. ساهمت عوامل كثيرة في قرار ترومان مساندة قرار التقسيم، من قبيل السياسة الداخلية والضغط الصهيوني المكثف من غير شك. لكن ترومان كتب في مذكراته "إن الشيء المناسب، والشيء الذي فعلت، هو ما أعتقد أنه الحق. وليذهبوا بعدها إلى الجحيم جميعاً".
قبل اليهود قرار الأمم المتحدة، لكن العرب رفضوه. يقضي هذا القرار بتقسيم الأرض ضمن إطار خطة معقدة إلى قسمين شبه متساويين تفصلهما حدود متعرجة. وكان القصد هو قيام اتحاد اقتصادي وحدود مفتوحة بين البلدين. حين صدور قرار التقسيم كان العرب يملكون أقل قليلاً من نصف أرض فلسطين كلها، وكان أقل من نصفها بقليل أملاكاً أميرية تملها الدولة، في حين امتلك اليهود 8% من الأراضي. وكان زهاء 600000 من اليهود يعيشون في فلسطين، وكلهم تقريباً في المناطق التي خصصها قرار التقسيم لليهود أو في منطقة القدس المدولة، في حين كان عدد العرب 1.2 مليوناً. كان الهدف من توزيع الأراضي بموجب القرار 181 هو إقامة منطقة ذات أغلبية عربية وأخرى ذات أغلبية يهودية، على أن يتم تدويل القدس ومحيطها. وبذلك يتم عزل 100000 يهودي في القدس ومحيطها عن بقية الدولة اليهودية (وهو عدد كبير نسبياً). تفصل أولئك اليهود عن دولتهم منطقة واسعة نسبياً أطلق عليها اسم "الممر" وخصصت للدولة الفلسطينية. يشمل "الممر" مدينتين عربيتين مزدحمتين بالسكان هما اللد والرملة، وبلدات أصغر مثل قلندية وعمواس والقسطل وغيرها، وهي تشرف على الطريق إلى القدس.
سرعان ما تبين أن هذه الخطة لن تؤدي إلى نتيجة فمن شأن العداء المتبادل أن يجعل قبول الآخر مستحيلاً في المجتمعين كليهما. ما كانت الأمم المتحدة راغبة في تدويل القدس بالقوة وما كانت قادرة على ذلك. أعلنت جامعة الدول العربية الحرب، بتحريض من الحاج أمين الحسيني، لتخليص فلسطين من اليهود. ولكن واقع الأمر هو أن كل دولة عربية كان لها برنامجها الخاص. كانت لملك الأردن عبد الله اتفاقات سرية غير رسمية مع إسرائيل، وقد تفاوض مع غولدا مائير على ضم الأجزاء المخصصة للدولة الفلسطينية في الضفة الغربية ومَنْع قيام دولة فلسطينية. وكانت سورية تريد ضم الجزء الشمالي من فلسطين بجميع سكانه، يهوداً وعرباً.
التاريخ الحديث
حرب الاستقلال، حرب 1948 ( "النكبة") ـ تنقسم حرب الاستقلال أو حرب 1948 إلى فترة ما قبل الاستقلال، وفترة ما بعد الاستقلال. بدأت اشتباكات بين القوات الإسرائيلية السرية والجماعات غير النظامية العربية فور صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة. لم تشارك الدول العربية في القتال آنذلك، بيد أن الجيش الأردني ساعد في الهجوم على مستوطنة غوش عتسيون، وعلى كتلة صغيرة من المستوطنات في الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية جنوب القدس.
مرحلة ما قبل الاستقلال : خلال الفترة التي سبقت إعلان استقلال إسرائيل ، تواجد جيشان غير نظاميين من المتطوعين العرب بقيادة الحاج أمين الحسيني في منطقة القدس، وفوزي القاوقجي في الجليل. وقد تمركز المقاتلون في البلدات العربية وأجروا عدة عمليات هجومية على مدن اليهود وقراهم أمام أعين البريطانيين. سمحت بريطانيا للقاوقجي وقواته غير النظامية بدخول فلسطين من سورية بعد الاتفاق معه على أنه لن يشارك في العمليات العسكرية، لكنه سرعان ما خرق الاتفاق وقام بالهجوم عبر الجليل. وكان في استقبال القوات العربية غير النظامية الجيش الصهيوني السري، والهاغانا، ومجموعات سرية من "المنشقين"، وفصائل إرغون وليهي.
اندلعت أعمال شغب عربية في القدس يومي 30 تشرين الثاني و1 كانون الثاني 1947. قطعت القوات الفلسطينية غير النظامية إمدادات الطعام والمياه والوقود عن القدس خلال حصار طويل، بدأ في أواخر عام 1947. اندلع القتال والعنف على الفور في جميع أنحاء البلاد ، وتضمن ذلك كمائن للمتنقلين، وحصاراً للقدس، وأعمال شغب مثل أعمال الشغب في مصفاة حيفا والمذابح التي وقعت في مستوطنة غوش عتسيون (قام بها الفلسطينيون) ودير ياسين (نفذها اليهود). بدأ العرب الفلسطينيون يغادرون مدنهم وقراهم هرباً من القتال. وجدير بالذكر أن معظم السكان العرب في حيفا رحلوا في آذار ونيسان عام 1948 على الرغم من مناشدة المسؤولين البريطانيين واليهود لهم بالبقاء. لم يفعل البريطانيون الكثير لوقف القتال، ولكن الأعمال القتالية ظلت محدودة بسبب عدم وجود أسلحة وجنود مدربين على الجانبين. كان الفلسطينيون في البداية متقدمين بوضوح. وقد أشار تقرير لمخابرات الهاغانا في آذار 1948 إلى أن الوضع حرج، وخصوصاً في منطقة القدس. ومن المتفق عليه عموماً أن شهر نيسان 1948 شهد نقطة تحول في القتال لصالح اليهود المتفوقين بالعدد والعدة قبل اجتياح الجيوش العربية. وبغية كسر الحصار المضروب على القدس نفذت الهاغانا "خطة داليت" المقررة مسبقاً، وهي خطة عامة للدفاع كان من المفترض أن يتم تنفيذها عند رحيل البريطانيين. تقضي الخطة باستخدام القوات المسلحة النظامية وتكتيكات الجيش، والقتال العلني بدلاً من السري. وكانت تتضمن تصوراً عن الإجلاء "المؤقت" للمدنيين من البلدات العربية في مناطق إستراتيجية محددة، مثل ممر القدس. تم اعتبار ذلك دليلاً على أن الصهاينة قد خططوا مسبقاً للهجرة وطرد السكان العرب.
شنت الهاغانا أول عملية واسعة النطاق، وهي عملية ناهشون، باستخدام 1500 جندي. وهاجمت قريتي قلونية والقسطل العربيتين اللتين تمركزت فيهما القوات العربية غير النظامية بعد فرار القرويون منهما. وعلى الطريق المؤدية إلى القدس تم كسر الحصار مؤقتاً وسمح لقوافل الإمدادات بالوصول إلى المدينة. سقطت القسطل في 8 نيسان وقتل فيها عبد القادر الحسيني قائد القوات الفلسطينية الرئيسية. ثم سقطت قلونية في 11 نيسان. وفي الشمال ، تمت هزيمة فوزي القاوقجي قائد "جيش الإنقاذ" في معركة مشمار هايميك يوم 12 نيسان 1948. ساعدت هذه النجاحات في إقناع الرئيس الأميركي ترومان بأن القوات العربية لا تستطيع أن تهزم اليهود فتخلى عن اقتراح الوصاية الذي قدمته الولايات المتحدة سابقاً إلى الأمم المتحدة. وفي أعقاب الهجمات التي شنتها قوات عربية غير نظامية هاجمت منظمة إرغون مدينة يافا العربية، جنوب تل أبيب. فرّ الفلسطينيون بشكل جماعي، على الرغم من مناشدة البريطانيين لهم من أجل البقاء.
الغزو العربي : كانت حكومات الدول العربية المجاورة أكثر تردداً مما يُعتقد عموماً للدخول في حرب ضد إسرائيل على الرغم من التصريحات النارية. ولكن الخوف من الضغط الشعبي اقترن بالخوف من أن الدول العربية الأخرى قد تتفوق عليهم في القتال في فلسطين. ساهم ذلك في التأثير على سورية والأردن ومصر للمضي إلى الحرب. كانت الدول العربية تقاتل وفقاً لخطة موحدة من الناحية الرسمية لكن التنسيق بينها كان ضعيفاً في واقع الأمر.
أعلن اليهود استقلال دولة إسرائيل في يوم 14 أيار 1948، وانسحب البريطانيون من فلسطين. وخلال الأيام والأسابيع التالية هاجمت الدول العربية المجاورة فلسطين وإسرائيل. تواصل القتال لفترات وجيزة تخللتها اتفاقات وقف إطلاق نار (أعلنت هدنة من 11 حزيران إلى 8 تموز 1948 ثم من 19 تموز حتى 15 تشرين الأول 1948).
سجل الجيشان المصري والسوري نجاحات ملحوظة في المرحلة الأولى. وعلى وجه الخصوص تمكن المصريون، مدعومين بالدبابات والمدفعية والمدرعات والطائرات التي لم تكن تملكها إسرائيل، أن يعزلوا النقب كلها ويحتلوا أجزاء من الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة اليهودية. وفي كتابه "في ميادين فلسطيسن" يروي ناشط السلام الإسرائيلي يوري أفنيري كيف أن الجيش المصري حاول حشد المدرعات لضرب تل أبيب. وكيف منعت مصر والأردن محاولات فلسطينية لإقامة دولة حقيقية. التزم الأردن بعدم مهاجمة المناطق المخصصة للدولة اليهودية، ولكن سورية ومصر لم تفعلا ذلك. تم صد الهجوم بواسطة عدد قليل من طائرات مسرشميت التي وصلت مؤخراً وتم شراؤها من تشيكوسلوفاكيا. أحرز السوريون بعض التقدم في الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة الفلسطينية. أما الأردن فلم يهاجم الأراضي اليهودية ومنع الفيلق العربي القوات العسكرية من محاصرة القدس اليهودية من موقعه المحصن في اللطرون. كان تدويل القدس قد تم وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 303. لم يكن ممكناً التغلب على المواقع الأردنية في اللطرون على الرغم من العديد من الهجمات الدموية. وبغية الالتفاف على ذلك أنشأ الإسرائيليون في نهاية المطاف "طريق بورما" الذي تم انجازه في حزيران عام 1948 فتم كسر الحصار المفروض على القدس.
أول وقف إطلاق النار ـ أعطى وقف إطلاق النار في حزيران للجميع وقتاً لإعادة تجميع القوات وتنظيمها. وهذا يمثل مرحلة حرجة في المعارك. ارتكب الجانب العربي خطأً حاسماً في قبول الهدنة. استغل الإسرائيليون وقف إطلاق النار لإعادة تنظيم الجنود وحشدهم وتدريبهم فأصبحوا قادرين على إحضار شحنات كبيرة من الأسلحة، على الرغم من أحكام المعاهدة، وعلى تدريب وتنظيم قوة مقاتلة حقيقية مكونة من 60000 جندي مما أعطاهم تفوقاً فعلياً في العدد والعتاد لأول مرة. لعل الهدنة تمكنت من إنقاذ القدس بعد أن كان أهلها مهددين بالموت جوعاً. وخلال الهدنة الطويلة اندمجت الجيوش السرية للهاغانا والبالماخ وإرغون وليهي في قوة وطنية مقاتلة واحدة هي جيش الدفاع الإسرائيلي (IDF). وقد حاولت حركة إرغون التصحيحية إحضار شحنة من الأسلحة إلى إسرائيل على متن سفينة تسمى ألتالينا من أجل الحفاظ على قوة مقاتلة مستقلة تابعة لها فأمر بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي قوات الدفاع الإسرائيلية بإغراق ألتالينا في حين رفض مناحيم بيغن زعيم منظمة إرغون التخلي عن شحن السلاح. لم يستثمر الفلسطينيون والعرب الوقت بشكل جيد. منع جيش الدفاع الإسرائيلي/الهاغانا شحنة كبيرة من الأسلحة المعدة للفلسطينيين ولم يسمح لها بالوصول إلى سورية. ولم تكن الدول العربية راغبة في دفع المزيد من الرجال أو في إنفاق المزيد من المال من أجل الكفاح.
استئناف الحرب ـ كانت الحرب مع المصريين حرب مواقع لأنهم كانوا معزولين في "الفلوجة" وهي جيب في وسط إسرائيل. بعد انتهاء وقف إطلاق النار نقلت إسرائيل الحرب إلى داخل الأراضي المصرية إذ دخلت قواتها شبه جزيرة سيناء. ثم اضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب بعد مواجهات مع الطائرات البريطانية.
خريطة حدود إسرائيل
حسب "الخط الأخضر
وفي الوسط، اقتطع الجيش الإسرائيلي رقعة من الأرض لفتح "ممر" بين القدس وبقية إسرائيل. وخلال "عشرة أيام" من القتال بين هدنتين احتل الإسرائيليون بلدتي اللد والرملة العربيتين اللتين كانتا تغلقان الطريق إلى القدس وتم طرد معظم الفلسطينيين الذين يعيشون فيهما بعد أن قتل كثير منهم. كما دمروا العديد من القرى الفلسطينية الصغيرة المحيطة بتل أبيب، وهكذا لم يُبقوا عملياً على أي فلسطينيين في وسط إسرائيل.
الهزيمة العربية وظهور مشكلة اللاجئين ـ بالرغم من النكسات الأولية، فإن تنظيماً أفضل ونجاحات استخباراتية، فضلاً عن شحنات الأسلحة السرية في الوقت المناسب، مكنّت اليهود من الوصول إلى نصر حاسم. فقد العرب والفلسطينيون ميزة التفوق الأولي عندما فشلوا في التنظيم والتوحد. وعندما انتهى القتال في عام 1949، كانت إسرائيل قد سيطرت على منطقة أكبر من تلك التي حددتها خطة الأمم المتحدة (ما مساحته 78٪ من المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن). لم تقم الأمم المتحدة بأي محاولة جادة لتطبيق تدويل القدس التي أصبحت الآن مقسمة بين الأردن وإسرائيل يفصل قسميها سياج من الأسلاك الشائكة ومنطقة محرمة. ظل الأردن ومصر يحتلان المنطقة المخصصة للدولة العربية. ثم ضمت مصر قطاع غزة وضم الأردن الضفة الغربية. وقد فرّ أو طُرد حوالي 726000 من العرب من إسرائيل وأصبحوا لاجئين في الدول العربية المجاورة. خلق الصراع عدداً مماثلاً تقريباً من اللاجئين اليهود من الدول العربية تم تجريد كثير منهم من ممتلكاتهم وحقوقهم وجنسياتهم؛ ولكن إسرائيل لم تطالب بشيء من حقوق هؤلاء اللاجئين.
رفضت الدول العربية التوقيع على معاهدة سلام دائمة مع إسرائيل. أي أنها رفضت الموافقة على حدود إسرائيل التي وضعتها لجنة الهدنة ولم تلق اعترافاً شرعياً دولياً. أطلق العرب على هزيمتهم ونزوح العرب الفلسطينيين في عام 1948 اسم "النكبة".
قامت الأمم المتحدة بترتيب سلسلة من اتفاقات وقف إطلاق النار بين العرب واليهود في 1948 و1949. دعا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 إلى وقف القتال وعودة اللاجئين الذين يرغبون في العيش بسلام. وطالب قرار مجلس الأمن رقم 62 بتنفيذ اتفاقات هدنة من شأنها أن تؤدي إلى سلام دائم. وتم رسم حدود إسرائيل على طول "الخط الأخضر" تبعاً لاتفاقات الهدنة لعام 1949. لم تعترف الدول العربية، التي ظلت ترفض الاعتراف بإسرائيل، بهذه الحدود. ولم تحل مشكلة اللاجئين على الرغم من توقف العمليات الحربية. انهارت المفاوضات لأن إسرائيل لم تسمح بدخول إلا عدد قليل من اللاجئين. وقف اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية مع الدولة الصهيونية أول الأمر ثم اتخذ جانب البلدان العربية. وعلى الرغم من دعم الولايات المتحدة المستمر لوجود إسرائيل فقد كانت المساعدات الأمريكية لإسرائيل ضئيلة ولم تشمل مساعدات عسكرية خلال إدارتي ترومان وأيزنهاور. كانت قوات الدفاع الإسرائيلية مجهزة بفائض من الأسلحة المستعملة التي تم شراؤها وبطائرات فرنسية ومدرعات خفيفة. بدأت الدول العربية، سورية ومصر خاصةً، تتلقى كميات كبيرة من المساعدات العسكرية السوفييتية. قررت الجامعة العربية المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وقد تقيد أكثر الدول الصناعية بهذه المقاطعة تقيداً جزئياً. وظلت المقاطعة سارية المفعول حتى تسعينيات القرن العشرين .
حملة سيناء ـ بعد الإطاحة بالملك فاروق في مصر على يد الضباط الأحرار برئاسة نجيب وعبد الناصر، قامت مصر ببعض التحركات نحو السلام مع إسرائيل. ومع ذلك جرى في عام 1954 ضبط شبكة تجسس إسرائيلية حاولت تفجير وكالة الإعلام الأميركية وغيرها من المؤسسات الأجنبية في مصر. وكان الهدف هو خلق توتر بين الولايات المتحدة ومصر ومنع تقاربهما. وفي إسرائيل، تنصل كل من وزير الدفاع بنحاس لافون ورئيس الوزراء ديفيد بن غوريون من المسؤولية عن ذلك الفعل، وألقى كلٌّ منهما باللوم على الآخر. أصبحت هذه الحادثة تعرف فيما بعد باسم "قضية لافون" و"العمل المشين". ارتابت مصر في النوايا الإسرائيلية، وبدأت تتفاوض على شراء كميات كبيرة من الأسلحة. وعندما رفض الغرب بيعها الأسلحة اتجهت إلى بلدان الكتلة الشرقية وتوصلت إلى اتفاق مع تشيكوسلوفاكيا. أغلق الرئيس المصري جمال عبد الناصر مضائق تيران وقناة السويس أمام الملاحة الإسرائيلية. اعتقد الإستراتيجيون الإسرائيليون أن مصر تعتزم خوض الحرب أو خوض معركة دبلوماسية بعد أن تكمل تسلحها. بدأت إسرائيل بالبحث عن مصدر للأسلحة أيضاً وخلصت إلى إبرام صفقة أسلحة مع فرنسا. شن الفلسطينيون والمصريون سلسلة من الغارات من قطاع غزة عبر الحدود استتبعت غارات انتقامية إسرائيلية متزايدة الشدة. كان رأى "ناشطين" إسرائيليين مثل موشيه ديان أن على إسرائيل شن حرب وقائية قبل أن تستكمل مصر أسلحتها الجديدة.
في صيف 1956 ، تآمرت إسرائيل وفرنسا وبريطانيا في خطة لإلغاء تأميم قناة السويس. على أن تغزو إسرائيل سيناء وتقوم بإنزال مظلي بالقرب من ممر متلا. في حين تصدر بريطانيا وفرنسا إنذاراً، وبعد ذلك تزجان القوات البرية بحجة الفصل بين الجانبين. بدأ تنفيذ الخطة اعتبارا من 29 تشرين الثاني 1956. احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء على وجه السرعة. غضبت الولايات المتحدة من تصرف إسرائيل وبريطانيا وفرنسا. ودعا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 997 إلى الانسحاب الفوري. ظلت القوات الإسرائيلية في سيناء عدة أشهر ثم انسحبت بعد ذلك تحت ضغط الأمم المتحدة والولايات المتحدة خاصةً. حصلت إسرائيل من الولايات المتحدة ومن قوة تابعة للأمم المتحدة كانت متمركزة في سيناء على ضمانات بأن تبقى الممرات المائية الدولية مفتوحة أمام الملاحة الإسرائيلية.
بدايات حركة فتح ـ ياسر عرفات فلسطيني مصري نشأ في قطاع غزة وكان عضواً في حزب الإخوان (الإخوان المسلمين) ، و"الفتوه" (يطلق عليهم رسمياً اسم "الكشافة النازية"، وذلك وفقاً لـكتاب بيني موريس "الضحايا الصالحون"، 1999، ص 124: الفصائل الفلسطينية المسلحة للمفتي الكبير الحاج أمين الحسيني). تم تجنيد عرفات من قبل المخابرات المصرية عندما كان يدرس في القاهرة عام 1955 حيث أسس الاتحاد العام للطلبة الفلسطينيين. انتقل في عام 1957 إلى الكويت وعمل بالاشتراك مع خليل الوزير (أبو جهاد) وفاروق القدومي وخالد الحسن ومحمود عباس وغيرهم على تأسيس لجنة لتحرير فلسطين سميت لاحقاً حركة فتح (الأحرف الأولى لعبارة "حركة التحرير الوطني الفلسطيني") على غرار جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
حرب الأيام الستة عام 1967 ـ ازداد التوتر بين إسرائيل والدول العربية في ستينيات القرن العشرين. بدأت إسرائيل بتنفيذ خطة المياه الوطنية التي تضخ بموجبها المياه من بحيرة طبرية للري في جنوب ووسط إسرائيل. توافق هذا المشروع مع الخطة التي اقترحها المبعوث الأميركي إريك جونستون في عام 1955 ووافق عليها المهندسون العرب. رفضت الحكومات العربية المشاركة نظراً لعدم اعترافها بإسرائيل. اتفق إسرائيل والأردن في اجتماعات سرية على الالتزام بحصص المياه التي حددتها الخطة.
وصفت حركة فتح الفلسطينية المشكلة حديثا عملية تحويل المياه الإسرائيلية بأنها "فعل امبريالي" من شأنه الحض على الثورة. وبدأ ياسر عرفات يدعو إلى الحرب من أجل القضاء على إسرائيل. سخر عرفات في صحيفة حركة فتح "فلسطيننا" من عجز الرئيس المصري جمال عبد الناصر وغيره من القادة العرب ودعا إلى اتخاذ إجراءات فعالة ضد إسرائيل. قرر ناصر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون بديلاً "مروضاً" عن حركة فتح ووضع أحمد الشقيري، وهو دبلوماسي لبق غير فعال، رئيساً لها.
خريطة حملة سيناء
االسوريون، الذين اختلفوا مع نهج عبد الناصر في القومية العربية حركة فتح وحاولوا السيطرة عليها. عملت المخابرات العسكرية السورية على تجنيد الإرهابيين ضد إسرائيل، وقدمت الأموال اللازمة لعمليات فتح. تم الإعلان عن أول عملية في 31 كانون الأول 1964، وهي شن هجوم على صهريج ماء إسرائيلي في بيت نيتوفا. ولكن هذا الهجوم لم يحدث في الحقيقة. كانت المحاولة الثانية في2 كانون الثاني1965 باستخدام عبوة ناسفة جرى تفكيكها في الوقت المناسب. وسرعان ما أعقب ذلك هجمات ناجحة في 14 كانون الثاني و28 شباط. كانت هذه النشاطات الإرهابية البسيطة تلقى شعبية واسعة في العالم العربي وتتناقض مع عدم اتخاذ أي إجراء بل الاكتفاء بكلام منمق من جانب جمال عبد الناصر؛ وبهذا كانت تحدياً لقيادته. يعتبر هذا الهياج حافزا للأحداث التي أدت إلى حرب الأيام الستة. ليس واضحاً ما إذا كان يجب أن تنسب هذه العمليات إلى سورية المنافسة لناصر، أو إلى حركة فتح كما يزعم ياسر عرفات والفلسطينيون. كان يتم دفع ناصر بصورة متزايدة إلى موقف قتالي بسبب أفعال الفلسطينيين "البطولية" تحت الهيمنة السورية.
وفي كثير من مؤتمرات القمة التي بدأت في 1964 صادق الزعماء العرب على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت عزمها على تدمير إسرائيل وقررت تحويل منابع نهر الأردن التي تغذي بحيرة طبرية لمنع إسرائيل من تنفيذ خطة نقل المياه. بدأ السوريون واللبنانيون تنفيذ عمليات تحويل مياه نهر الأردن فردّت إسرائيل بإطلاق النار على الجرارات والمعدات العاملة في ذلك المشروع على الجانب السوري مستخدمة أسلحة دقيقة بعيدة المدى أرغمت السوريين على إبعاد تلك المعدات عن الحدود. وتلت ذلك محاولات إسرائيلية لزراعة المناطق المجردة من السلاح وفقاً لاتفاقية الهدنة. كان ذلك من حق إسرائيل وفقاً لاتفاقات الهدنة؛ ولكن موشيه ديان ادعى بعد عدة سنوات أن 80٪ من هذه الحوادث كان استفزازياً. رد السوريون بإطلاق النار في المناطق المجردة من السلاح. وعندما رد الإسرائيليون بالقوة، بدأت سورية بقصف البلدات الإسرائيلية في الشمال ثم زادت الغارات الجوية من حدة الصراع. عزم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية على حماية البعثيين الجدد المؤيدين للسوفييت في سورية. وأوضح للسوريين والمصريين أن إسرائيل تستعد للهجوم على سورية. وحين ارتفعت حدة التوتر سعت سورية إلى التقارب مع مصر مصدقةً ما قاله الاتحاد السوفيتي من أن إسرائيل تحشد قواتها على الحدود السورية. وكان هذا الادعاء كاذباً، وقد أنكرته الأمم المتحدة.
على هذه الأرضية، وفي منتصف أيار 1967، بدأ الرئيس المصري جمال عبد الناصر إطلاق التصريحات العدائية. وفي يوم 16 أيار 1967، قالت إذاعة القاهرة: "لقد استمر وجود إسرائيل أكثر مما ينبغي. إننا نرحب بالعدوان الإسرائيلي، ونرحب بالمعركة التي انتظرناها طويلاً. لقد حانت ساعة الصفر. جاءت المعركة التي سندمر فيها إسرائيل". وفي اليوم نفسه، طلبت مصر انسحاب قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة من سيناء وقطاع غزة. وافق يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة على سحب القوات في 18 أيار. إذ لا يمكن رسميا أن تتواجد هذه القوات في مصر إلا بموافقتها. تم الاعتقاد لفترة طويلة أن عبد الناصر كان يأمل في الحقيقة أن لا يسحب يوثانت القوات، وأن يستفيد من وجود قوات الأمم المتحدة كذريعة لعدم فعل شيء.
في 23 أيار أغلق ناصر مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. وامتنعت الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها وضمان حرية إسرائيل في استخدام الممرات المائية. تدفق سيل من التصريحات التي صدرت من العواصم العربية والأمم المتحدة. ففي الأمم المتحدة، أعلن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري أنه "إذا قامت الحرب فسيكون لدينا امتياز الضربة الأولى". ستطرد منظمة التحرير الفلسطينية جميع الصهاينة الذين هاجروا بعد عام 1917، وستقضي على دولة إسرائيل. وفي خطاب موجه إلى النقابيين العرب في 26 أيار 1967، برر ناصر انصراف قوات الطوارئ الدولية وأوضح أن مصر على استعداد لمحاربة إسرائيل من أجل حقوق الفلسطينيين. كما هاجم الأردنيين معتبراً إياهم أدوات للامبريالية موسعاً مجال الضغط المستمر على العاهل الأردني الملك حسين.
وعلى الرغم من العبارات النارية، يرى محللون مثل آفي شاليم وغيره أن التنافس بين العرب يقف وراء انزلاقهم بلداً بعد بلد إلى الصراع مع أنهم ما كانوا يعتزمون الحرب. يقول شاليم إن عبد الناصر ما كان ينوي مهاجمة إسرائيل أبداً. لقد جرته إلى الصراع المناورات السوفييتية والمخاوف السورية ورغبته في أن يتسنم قيادة العالم العربي كما أوضح المحللون. أيّاً كان الأمر، كما يقول مايكل أورين، فقد تم في الآونة الأخيرة كشف وثائق سرية توضح أن المصريين خطّطوا فعلياً لمهاجمة إسرائيل في 28 أيار 1967. أُطلق على هذه الخطة، اسم عملية الفجر. لكن إسرائيل اكتشفتها. أبلغ الإسرائيليون الأمريكيين بذلك. ثم أخبر الرئيس الأميركي جونسون رئيس الوزراء السوفييتي كوسيغن بالموضوع فكتب كوسيغن إلى عبد الناصر. فهم ناصر أنه فقد عنصر المفاجأة فألغى الهجوم. مع ذلك ظل عبد الناصر يتحدث عن المواجهة مع إسرائيل في 27 أيار 1967. وقال أمام أعضاء في الجمعية الوطنية المصرية "سيساعدنا الله بالتأكيد ويحثنا على إعادة الوضع إلى ما كان عليه في عام 1948".
بدأ ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي الضغط على المؤسسة المدنية لإعلان الحرب لأنهم كانوا يرون أن الهجوم العربي قد يكون وشيكاً وأن قدرة إسرائيل محدودة على الحفاظ على جيشها المعبأ تماماً. لكن رئيس الوزراء اشكول لم يكن مستعداً لاتخاذ إجراءات. كما عارض وزير الخارجية أبا إيبان الحرب من جانب واحد معتقداً أنها ستكون ضد ما تريده الولايات المتحدة. يعترف آرييل شارون الآن بأنه وآخرين، من بينهم إسحق رابين، قد بحثوا إمكانية القيام بانقلاب بحيث يتم احتجاز المسؤولين الحكوميين في غرفة في حين يبدأ الجيش الحرب. لكن هذه الفكرة لم تجتز مرحلة التفكير بصوت عال.
وقع الأردن اتفاقية دفاع مع مصر في 30 أيار وراح يستعد للحرب. وأعلن ناصر أن: "جيوش مصر والأردن وسورية ولبنان تستعد للتحرك إلى حدود إسرائيل... لمواجهة التحديات، في حين تقف من وراءنا جيوش العراق والجزائر والكويت والسودان والأمة العربية بأسرها. هذا العمل سوف يذهل العالم. سيعلمون اليوم أن العرب قد استعدوا لهذه المعركة، لقد دقت الساعة الحاسمة. ووصلنا إلى مرحلة العمل الجاد وليس الخطابات".
وفي 4 حزيران انضم العراق إلى التحالف العسكري مع مصر والتزم بالحرب. في 31 أيار قال الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف: "هذه فرصة لنا للقضاء على الخزي الذي رافقنا منذ عام 1948. هدفنا واضح ...... محو إسرائيل عن الخارطة".
كان تقييم الولايات المتحدة وإسرائيل هو أن إسرائيل ستكسب أي حرب بشكل معقول على الرغم من التفوق الكبير في المدرعات والطائرات والمقاتلين لدى القوات المشتركة للدول العربية. قبل عام 1967، لم تكن إسرائيل قد حصلت على أي مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة. في حين كانت مصر وسورية مجهزتين بكميات كبيرة من أحدث المعدات العسكرية السوفييتية. كانت فرنسا هي المزود الأول لإسرائيل بالسلاح. على الورق، كان لدى إسرائيل من الطائرات ما يقارب عددها عند المصريين. إلا أن أكثر الطائرات الإسرائيلية كان قديماً، ولم تكن طائرات سوبر وميراج تكافئ المقاتلات من طراز ميغ 21 التي حصلت عليها مصر من الاتحاد السوفييتي. وعلى الورق أيضاً، كان لدى جيش الدفاع الإسرائيلي عدد كبير من "الدبابات" يكافئ ما لدى البلدان العربية، أو يكاد. ومع ذلك، كان المصريون والسوريون مجهزين بآخر ما أنتجه السوفييت من الدبابات الثقيلة، في حين كان أكثر "الدبابات" الإسرائيلية عبارة عن مركبات أي إم إكس الفرنسية الصغيرة المضادة للدبابات. أما الدبابات الثقيلة فكانت دبابات شيرمان المجددة التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية وهي مزودة بمحركات ديزل. كان قد سُمح لإسرائيل بشراء نحو 250 دبابة باتون إم 48 من ألمانيا في عام 1965. جرى تجديد معظم هذه الدبابات وزودت بمحركات ديزل في عام 1967. ورفضت الولايات المتحدة طلباً إسرائيلياً للحصول على 100 دبابة باتون لتحل محل الدبابات التي خرجت من الخدمة. اعتقد الإسرائيليون واليهود عموماً، وبعض أعضاء الحكومة، أن إسرائيل في خطر مميت. تم حفر عشرة آلاف قبر في تل أبيب والمتنزهات العامة تحسباً لخسائر فادحة.
لعل الحكومة الإسرائيلية ما كانت تريد الحرب، لكن بعض أعضائها كانوا خائفين من الحرب فعلاً. وبخ بن غوريون رئيس الأركان إسحاق رابين لإصداره تصريحات قتالية من شأنها تصعيد الموقف على حد قوله وإيقاع إسرائيل في وضع مربك. بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول متردداً وتلعثم في خطاب إذاعي درامي موجه إلى الأمة. تشكلت حكومة وحدة وطنية في ظل الضغط الجماهيري الكبير من جانب أحزاب المعارضة. وحاول وزير الخارجية آبا إيبان دون جدوى الحصول على ضمانة من الولايات المتحدة بإعادة فتح ممرات تيران. في البداية، وعد الرئيس جونسون بأسطول دولي صغير، وحذر إسرائيل من بدء الحرب من جانب واحد. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على الشروع في أي عمل دولي. وقد تراجعت عن موقفها مشيرة بوضوح إلى أن على إسرائيل حل مشاكلها بنفسها.
خريطة خطوط وقف إطلاق النار
بين إسرائيل والعرب عام 1967
لم تستطع إسرائيل المحافظة على تعبئة عامة محددة. وعندما أصبح واضحاً أن مصر لن تلغي حالة الاستعداد للحرب بدأت إسرائيل الهجوم عليها في 5 حزيران 1967. في الساعات الأولى للحرب، دمرت إسرائيل أكثر من 400 طائرة للعدو من أجل تحقيق التفوق الجوي العام. احتلت القوات الإسرائيلية بسرعة شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. بدأت المدفعية الأردنية بإطلاق القذائف على القدس في اليوم الأول من أيام الحرب على الرغم من تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول للأردنيين بالبقاء بعيداً عن الحرب. ثم تقدم فيلق أردني فاستولى على مقر الأمم المتحدة في القدس. وبعد تحذير إسرائيل الملك حسين مراراً ودعوته إلى وقف إطلاق النار والانسحاب، احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس. قامت المدفعية السورية في مرتفعات الجولان خلال الأيام الأولى من الحرب بقصف أهداف مدنية في شمال إسرائيل. قررت إسرائيل، بعد فراغها من أمر مصر، احتلال مرتفعات الجولان على الرغم من معارضة بعض أعضاء الحكومة وشكوكهم بمن فيهم موشي ديان الذي أصبح وزيراً للدفاع، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة قد دعت لوقف إطلاق النار. وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار يوم 10حزيران 1967 بعد احتلال مرتفعات الجولان. ودعا قرار الأمم المتحدة رقم 242 إلى مفاوضات سلام دائم بين الطرفين وإلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967.
عقابيل الحرب ـ لقد غيرت حرب الأيام الستة عام 1967 ميزان القوى القائم في الشرق الأوسط وخلقت واقعاً جديداً. احتلت إسرائيل مناطق كبيرة: صحراء سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية. وكانت هذه المناطق أكبر من إسرائيل التي ضمن حدود 1848 بعدة أضعاف. لقد كان عبد الناصر قادراً على نسبة الهزيمة المصرية عام 1956 إلى الدعم البريطاني والفرنسي الذي حظي به الإسرائيليون. ورغم محاولته إلقاء اللائمة في هزيمة 1967 على دعم مفترض قدمه الأسطول السادس الأمريكي، فقد كان من الواضح أن هذا الزعم غير صحيح.
يقول محللون من أمثال فؤاد عجمي إن الهزيمة الكارثية التي مني بها العرب وضعت نهايةً للتوجه العروبي الذي يدعو إليه جمال عبد الناصر وساهمت في نهوض الأصولية الإسلامية. لكن، يجدر بنا تذكر أن عبد الناصر ودعاة القومية العربية كانوا يعتبرون أنفسهم دائماً زعماء العالم الإسلامي، إضافة إلى العالم العربي.
صحيح أن إسرائيل أحرزت الأرض والنصر العسكري، لكنها وضعت أيضاً بداية جديدة للتطلعات الفلسطينية. لقد أدخلت الهزيمة زهاء مليون عربي فلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي. وبعد الحرب، صار مصير الفلسطينيين يلعب دوراً كبيراً في الصراع العربي الإسرائيلي. تم تأسيس منظمة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) نحو عام 1957 (رغم أنها اتخذت شكلاً رسمياً بعد ذلك بزمنٍ طويل)، ثم أسِّست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964. وكان تدمير إسرائيل هدفاً معلناً لكليهما. وبعد حرب الأيام الستة استبدل برئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد شقيري رئيس جديد هو زعيم حركة فتح ياسر عرفات. صارت لمنظمة التحرير الفلسطينية الآن حرية الحركة والفعل من غير عرقلة من جانب الأنظمة العربية فاقدة المصداقية. وبما أن فلسطين كلها صارت الآن تحت الحكم الإسرائيلي فإن أعمال فتح ما عادت تشكل تهديداً مباشراً للحكومات العربية. وفي ذلك الوقت اعترفت جميع الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم اعترفت بها الأمم المتحدة آخر الأمر ممثلاً للشعب الفلسطيني. وقد تكلم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974. كانت إسرائيل شديدة العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية بسبب أعمالها الإرهابية ضد اليهود وبسبب ميثاقها الذي ينص على تدمير دولة إسرائيل وطرد اليهود الذين وفدوا بعد عام 1917.
ما كانت الحكومة الإسرائيلية عاقدة العزم بشأن خططها الخاصة بالأراضي المحتلة. ضغطت الولايات المتحدة عليها لإصدار إعلان يدعو إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل السلام. وفي 19 حزيران 1967 قررت الحكومة الإسرائيلية أن تعرض على مصر وسورية إعادة شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان مقابل تسوية سلمية يجري التفاوض عليها تفاوضاً مباشراً. لكن من الواضح أن هذا العرض لم يشتمل قطاع غزة وأنه يدعو إلى جعل سيناء منطقة منزوعة السلاح. أما في الجولان فقد عرضت إسرائيل الانسحاب حتى الحدود الدولية بدلاً من الانسحاب حتى خط الهدنة لعام 1949؛ أي أنها استثنت المناطق التي احتلتها سورية عام 1948. لم يتطرق العرض الإسرائيلي إلى الأردن والضفة الغربية. وجرى نقل هذا العرض سراً عبر الولايات المتحدة لكنه قوبل بالرفض. لقد رفضت مصر وسورية التفاوض مع إسرائيل.
ونزولاً عند طلب الملك حسين ملك الأردن اجتمع ياكوف هرتزوغ مع الملك في عيادة هرتزوغ الطبية في لندن مساء الثاني من تموز 1967. وطبقاً للملاحظات التي سجلها هرتزوغ عن هذا الاجتماع، عرض الملك حسين الأسباب التي جعلته مضطراً إلى خوض الحرب. وقد قال إن السلام إن تحقق يجب أن يكون سلاماً مشرفاً؛ لكنه لم يطالب بهذا السلام. ولم يجب أيضاً عندما سأله هرتزوغ إن كان يعرض سلاماً، لكنه قال إنه سيجيب في الوقت المناسب. لم يكن لدى إسرائيل عرض سلام ملموس تقدمه إلى الأردن. طرح هرتزوغ وجهة نظره الخاصة ومفادها وجوب قيام اتحاد اقتصادي كونفدرالي (جرى توثيق هذا الاجتماع في سيغيف، توم، إسرائيل عام 1967 (1967: Veharetz shinta et paneiha ـ بالعبرية فقط)، 2005، ص: 530 - 536).
بدأت الجماعات المتدينة والقومية التحريض من أجل قيام إسرائيل بضم مناطق في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان واستيطانها. لكن عدداً من الوزراء من بينهم بنحاس سابير وزلمان أران، إضافة إلى حزب العمل وياكوف شمشون شابيرا من "الحزب الوطني الديني" أبدوا مخاوفهم إزاء المشكلات الديموغرافية التي من شأنها أن تنشأ بسبب ضم كل هؤلاء العرب. وأشار شابيرا أيضاً إلى أن ضم الضفة الغربية يعطي مصداقية للمزاعم القائلة إن إسرائيل ليست إلا مشروعاً استعمارياً. وكان مناحيم بيغن وإيغال آلون يؤيدان فكرة الضم. واقترح موشي دايان منح حكم ذاتي لعرب الضفة الغربية لكن مناحيم بيغن عارض هذه الخطة رغم أنه مال إليها في وقت لاحق. كان بيغن يرى أن من الممكن استقدام أعداد كبيرة من اليهود إلى إسرائيل للاستيطان في المناطق مع منح العرب حرية الاختيار بين الرحيل أو أن يكونوا مواطنين في دولة إسرائيل.
اقترح الموساد إقامة دولة فلسطينية تحت الحماية الإسرائيلية، وذلك في تقرير مؤرخ في 14 حزيران 1967 (سيغيف، 1967، ص: 537 - 538)، لكن هذا الاقتراح لم يلق قبولاً. ويقول بعض المصادر إن موشي دايان استقبل في صيف 1967 وفداً من الأعيان واقترح عليهم حكماً ذاتياً في الضفة الغربية؛ لكن الوفد رفض هذا الاقتراح.
وبحلول شهر تموز 1967، طرح إيغال آلون خطته المعروفة باسم "خطة آلون" التي دعت إلى احتفاظ إسرائيل بأجزاء كبيرة من الضفة الغربية في أي تسوية سلمية، وذلك لأسباب استراتيجية. جرى بناء عدد متزايد من المستوطنات مع اتضاح أن الدول العربية لن تقدم على مفاوضة إسرائيل. ثم جاءت قمة الخرطوم في آب وأيلول 1967 فكانت نقطة انعطاف حاسمة إذ بدا أنها تغلق الباب أمام احتمال التفاوض مع إسرائيل أو الاعتراف بها بأي شكل من الأشكال. لكن، لعل قرارات قمة الخرطوم ما كانت عقبة كأداء في وجه السلام. ففي عام 1970، قيل إن الملك حسين عرض السلام مقابل انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وعودة الأماكن المقدسة، لكن إسرائيل رفضت هذا الاقتراح رفضاً مهذباً.
ثم جاءت نقطة فاصلة ثانية تمثلت في قرار الأمم المتحدة عام 1975 القائل إن "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية". أعطى هذا القرار مصداقية في إسرائيل لقول المتطرفين الإسرائيليين إن معارضة الاستيطان معارضة لإسرائيل نفسها وإن إسرائيل تقف وحيدة من حيث الأساس في وسط عالم معاد لها لا يسعها أن تتوقع منه أي إنصاف. أبطل هذا القرار عام 1991، لكن مشاعر مماثلة ظهرت في مؤتمر الأمم المتحدة الذي انعقد في دربان عام 2001. وعلى نحو مماثل، قال معاون وزير الخارجية الأمريكي هارولد ساوندرز في عام 1975 لإحدى لجان الكونغرس الأمريكي إن الولايات المتحدة صارت تدرك الآن أهمية القضية الوطنية الفلسطينية في الصراع، ثم أشار إشارة فضفاضة إلى استعداد الولايات المتحدة لتسهيل حلٍّ يأخذ بحسبانه الحقوق الفلسطينية إذا اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما في ذلك حق إسرائيل في الوجود، وقال إن الولايات المتحدة ستنظر بعطف إلى تسوية منطقية. كان من شأن هذه السياسية أن تثمر أخيراً في عملية السلام في أوسلو بعد قبول رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات قرار الأمم المتحدة رقم 242 في عام 1988.
لكن توسيع المستوطنات صار في هذه الأثناء سياسية رسمية إسرائيلية بعد أن وصل حزب المعارضة، الليكود، إلى الحكم عام 1977 وظل فيه خلال إبرام اتفاقيات أوسلو. وبحلول عام 2003، بلغ عدد الإسرائيليين المستوطنين في الضفة الغربية وغزة 220000 مستوطن، إضافة إلى 200000 استوطنوا في منطقة القدس ومحيطها التي احتلت عام 1967. كما استوطن نحو 15000 يهودي في مرتفعات الجولان التي استولت عليها إسرائيل من سورية.
حرب الاستنزاف ـ بعد حرب الأيام الستة، شن الرئيس المصري جمال عبد الناصر حرب الاستنزاف في منطقة قناة السويس خارقاً اتفاق وقف إطلاق النار. وفي إسرائيل، توفي رئيس الوزراء ليفي أشكول وحلت محله المتشددة غولدا مائير. جرت حرب مواقع ثابتة بين الجانبين راحت تزداد دموية وشارك فيها طيارون سوفييت من الجانب المصري. وتحت ضغط من الولايات المتحدة جرى توقيع اتفاق ثانٍ لوقف إطلاق النار في آب 1970 أعلن فيه الجانبان رسمياً قبولهما قرار الأمم المتحدة رقم 242. توفي عبد الناصر بعد ذلك بفترة قصيرة وحل محله أنور السادات الذي حاول مراراً إثارة اهتمام إسرائيل بصفقات سلام جزئي مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي؛ كما حاولت الولايات المتحدة والأمم المتحدة التوسط من أجل السلام من خلال غونار يارنغ. لم تخرج هذه الجهود السلمية بأي نتيجة، وذلك جزئياً بسبب الموقف المتعنت لرئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير التي أصرت على عدم انسحاب القوات الإسرائيلية قبل التوقيع على اتفاقية سلام. واصل السادات التقلب بين عرض خطط السلام والتهديد بالحرب، لكن إسرائيل لم تتعامل معه بجدية. كانت مخابرات الجيش الإسرائيلي، والحكومة الإسرائيلية، على قناعة بأن إسرائيل تملك تفوقاً عسكرياً مطلقاً وبأن مصر لن تجرؤ على مهاجمتها إلى أن تعيد بناء جيشها. من هنا، بدا السبيل الأفضل هو الانتظار ريثما تقبل الدول العربية بالشروط الإسرائيلية.
حرب أكتوبر (حرب يوم الغفران) ـ في تشرين الأول 1973 شنت مصر وسورية حرباً جديدة على إسرائيل بعد رفض الحكومة الإسرائيلية برئاسة غولدا مائير عروضاً قدمها الرئيس المصري أنور السادات من أجل التفاوض والتسوية. اجتاز المصريون قناة السويس بعيد ظهر يوم السادس من تشرين الأول (يوم الغفران)، وهو أقدس أيام السنة لدى اليهود. كانت الحكومة الإسرائيلية قد تجاهلت إنذارات استخباراتية متكررة لأنها كانت مقتنعة بأن أسلحة إسرائيل تمثل رادعاً كافياً في وجه أي مهاجم. لقد أعلن السادات مرتين من قبل عن اعتزامه شن الحرب، لكن شيئاً لم يحدث. وعندما صدقت إسرائيل التقارير الاستخباراتية آخر الأمر، صبيحة يوم الهجوم، قرر كل من غولدا مائير ووزير الدفاع موشي دايان عدم استدعاء الاحتياط.
فوجئ الإسرائيليون من أكثر من ناحية واحدة. تدفقت أعداد كبيرة من القوات المصرية عبر قناة السويس دون مقاومة وبدأت تقيم رأس جسر لها. كان الجيش الإسرائيلي قد أهمل مهام التدريب والصيانة الرئيسية. وعندما تم حشد القوات تبين أن ثمة نقصاً في المعدات وأن جاهزية سلاح الدبابات منخفضة. أما سلسلة المخافر المبنية لتكون مراصد على امتداد قناة السويس (خط بارليف) فقد استخدمت بدلاً من ذلك لتكون تحصينات تمنع تقدم المصريين إلى أطول وقت ممكن. واجه عدد قليل من الجنود المذبحة المصرية ثم سحقوا بعد مقاومة عنيدة. كان السوفييت قد باعوا تكنولوجيا جديدة للمصريين: صواريخ أرض جو متقدمة (سام) وقواذف ساغر الفردية المضادة للدبابات. كانت إسرائيل تراهن على سلاح الجو لجعل الميزان في ساحة المعركة يميل في صالحها، لكنها أهملت سلاح المدفعية. لكن سلاح الجو الإسرائيلي غدا عديم الجدوى بسبب فعالية صواريخ سام إلى أن تمكنت إسرائيل من تدمير محطات الرادار التي توجهها. واصلت إسرائيل شن هجمات معاكسة عقيمة في سيناء عدة أيام إلى أن تمكنت الوحدات الإسرائيلية من تجاوز الازدحام المروري الشديد الذي كان يمنعها من تركيز قواتها، إضافة إلى المقاومة المصرية الشديدة.
في هذه الأثناء لم تترك إسرائيل إلا أقل من 200 دبابة لحراسة مرتفعات الجولان في مواجهة قواتٍ سورية تفوقها عدداً بقدرٍ كبير. حقق السوريون اختراقات خطيرة في الجولان، من غير مقاومة في البداية، وذلك أثناء عبور المصريين قناة السويس واستعادتهم قطاعاً من شبه جزيرة سيناء. تمكنت إسرائيل من استعادة الجولان بعد أن تكبدت خسائر فادحة. أما في سيناء فقد اجتازت القوات الإسرائيلية قناة السويس. وغامر الجنرال آرييل شارون، مخالفاً أوامر رؤسائه الحذرين، بقطع قواته عن الدعم والإمداد من أجل بناء رأس جسر على الجانب المصري من قناة السويس. تم تعزيز هذه القوة الصغيرة بعد نصب جسور على القناة. وتمكن الإسرائيليون من محاصرة الجيش المصري الثالث كله. استطاعت اتفاقات وقف إطلاق النار إنهاء القسم الأكبر من القتال خلال شهر واحد. قتل نتيجة لهذه الحرب نحو 2700 جندي إسرائيلي و8500 جندي عربي، واضطرت غولدا مائير إلى الاستقالة من رئاسة الوزراء مفسحة الطريق أمام إسحاق رابين الذي كان سفير إسرائيل إلى الولايات المتحدة وكان قبل ذلك رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي.
حظر النفط ـ في أعقاب حرب يوم الغفران، أعلنت الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية حظراً على النفط يستهدف الولايات المتحدة وهولندا خاصةً بسبب دعمهما لإسرائيل. جرى تخفيض إنتاج النفط بنحو 340 مليون برميل اعتباراً من تشرين الأول حتى كانون الأول 1973. قفزت أسعار النفط من 3 دولارات إلى 11 دولاراً للبرميل بسبب الاندفاع إلى تخزين النفط إضافةً إلى النقص الفعلي. وكان النفط المباع إلى البلدان الأوروبية يأخذ طريقه في النهاية إلى الولايات المتحدة وهولندا، لكن خطوط الإمداد بالمحروقات صارت طويلة وصارت الأسعار تزداد من يومٍ لآخر. استمر هذا الحظر حتى آذار 1974. وقد عزز الفكرة القائلة بأن الدول العربية قادرة على ممارسة ضغط سياسي من خلال التحكم بالإمدادات النفطية. ولعل هذا خلق حافزاً للتحركات الدبلوماسية الأوروبية التي سعت إلى استرضاء العرب، ولعله لعب دوراً في دعوة ياسر عرفات إلى مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي منح منظمة التحرير الفلسطينية مقعداً دائماً بصفة مراقب في الأمم المتحدة، وكذلك في اتخاذ قرار "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية" في عام 1975.
السلام مع مصر ـ أثمرت الدبلوماسية المكوكية التي اعتمدها وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر بعد ذلك انسحابات إسرائيلية جزئية من سيناء بموجب شروط أقل من تلك التي كان الحصول عليها ممكناً قبل الحرب. وكان زعيم المعارضة اليميني مناحيم بيغن مصراً على معارضة أي شكل من أشكال الانسحاب. لكن مصر بزعامة أنور السادات وإسرائيل بزعامة مناحيم بيغن وقعتا عام 1978 على اتفاقيات كامب ديفيد التي كانت إطاراً قاد إلى معاهدة السلام عام 1979. ثم انسحبت إسرائيل من شبه جزيرة سيناء عام 1982.
منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، والحرب الأهلية اللبنانية ـ تفاقمت حالة عدم الاستقرار في لبنان عندما وجد المسيحيون الموارنة أن موقعهم المهيمن صار في خطر بفعل التغيرات الديموغرافية التي أدت إلى تحول المسلمين إلى أغلبية كبيرة. وتفاقمت التوترات بين مختلف الجماعات الدينية بفعل التنافس بين زعماء العائلات. كان في لبنان أيضاً عدد كبير نسبياً من اللاجئين الفلسطينيين الذين يضمرون عداوة للبنانيين، وللمسيحيين اللبنانيين خاصة. أدى تمرد منظمة التحرير الفلسطينية على الحكومة الأردنية إلى إبعاد المنظمة عن الأردن عام 1970 فتدفق مقاتلوها إلى لبنان فأثاروا التوتر بين المسيحيين والمسلمين وحولوا لبنان إلى قاعدة لمهاجمة إسرائيل. وفي عام 1975 أدى هجوم شنه مقاتلو حزب الكتائب اللبناني المسيحي على حافلة تنقل فلسطينيين إلى إشعال شرارة الحرب الأهلية. ذبح حزب الكتائب المسيحي والميليشيات الإسلامية ما لا يقل عن 600 مسلم ومسيحي على حواجز الطرق فبدأت الحرب الأهلية (1975 – 1976). انفجرت حرب أهلية واسعة النطاق انضم فيها الفلسطينيون إلى المسلمين فهيمنوا على بيروت الغربية التي شهدت انفلاتاً متزايداً. وانزلقت الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية إلى الفوضى فاتسمت بتكرار مشؤوم لانفجار السيارات المفخخة والاغتيالات وقتل المدنيين ومضايقتهم على الحواجز التي أقامتها الميليشيات المتقاتلة.
وفي 20 كانون الثاني 1976 قام مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية (لعلهم كانوا مدعومين من قبل فصيل من منظمة التحرير موالٍ لسورية دخل إلى لبنان عام 1975) بتدمير بلدتي الدامور والجية المسيحيتين فقتلوا نحو 500 شخص. وفي آذار شكل الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد جيش لبنان الجنوبي الذي كان ميليشيا هدفها حماية مسيحيي جنوب لبنان والذي تحالف مع إسرائيل في حزيران 1976 عندما صار الموارنة على شفير الهزيمة. وعند ذلك طلب الرئيس اللبناني إلياس سركيس تدخل السوريين. وفي ظل موافقة أمريكية وإسرائيلية، دخل السوريون إلى لبنان بهدف ظاهري هو حماية المسيحيين وحماية التركيبة اللبنانية الهشة متعددة الإثنيات والطوائف، لكن الهدف كان أيضاً تعزيز الطموحات البعثية القديمة في جعل لبنان جزءاً من سورية الكبرى. وفي 13 آب 1976، هاجمت ميليشيا حزب الكتائب اللبناني (تحت حماية الجيش السوري، وربما بمشاركةٍ منه) مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين فقتلت نحو 3000 مدني فلسطيني.
وبعد هجومٍ على حافلة إسرائيلية على الطريق بين حيفا وتل أبيب قتل فيه نحو 30 إسرائيلياً، غزت إسرائيل لبنان في آذار 1978. احتلت القوات الإسرائيلية معظم المنطقة الواقعة إلى الجنوب من نهر الليطاني في عملية أطلقت عليها اسم "عملية الليطاني". ورداً على ذلك صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 الداعي إلى انسحاب إسرائيلي فوري وإلى إنشاء قوة أمم متحدة مؤقتة في لبنان (UNIFIL) مهمتها المحافظة على السلام.
سلمت إسرائيل مواقعها في الأراضي اللبنانية على امتداد الحدود إلى جيش لبنان الجنوبي. وأقامت مع هذا الجيش منطقة أمنية بعرض 12 ميلاً لحماية الأراضي الإسرائيلية من الهجمات العابرة للحدود ولحماية السكان المحليين من منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تحتل قراهم وتستخدمها قواعد لها من أجل قصف إسرائيل. صارت هذه المنطقة الجنوبية منطقة "حدود مفتوحة" يفصلها عن إسرائيل "سياج" يسمح للمواطنين اللبنانيين بالدخول من أجل العمل في إسرائيل. لكن الهجمات والهجمات المضادة على امتداد حدود إسرائيل الشمالية تواصلت. وفي تموز 1981 تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين إسرائيل ومنظمة التحرير بوساطة أمريكية. وقد احترمه الطرفان بشكل عام. لكن منظمة التحرير واصلت حشد قواتها وترسيخ مواقعها في جنوب لبنان.
حرب 1982 في لبنان (عملية سلامة الجليل) ـ في 3 حزيران 1982 قام إرهابيون من جماعة "أبو نضال"، وهي جماعة غير خاضعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، باغتيال سفير إسرائيل في لندن شلومو آرغوف. ورداً على ذلك قامت إسرائيل بغزو لبنان. يرى معظم المحللين أن اغتيال آرغوف ما كان إلا ذريعة لتلك العملية التي خطط لها وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون بموافقة ضمنية من جانب الإدارة الأمريكية. أرسل النظام الإسلامي الإيراني إلى لبنان قوات الباسداران (الحرس الثوري) التي سبق لها أن استولت على السفارة الأمريكية في طهران، وبدأت تنظم حركة مقاومة تحت اسم "حزب الله".
أدى الغزو الإسرائيلي إلى إجلاء منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان إلى تونس في شهر آب. أثارت هذه الحرب غضباً في إسرائيل عندما تجاوز الجيش الأهداف الرسمية للحرب. وفي 14 أيلول 1982 اغتيل الرئيس اللبناني المنتخب المتحالف مع إسرائيل بشير الجميّل بقنبلة ضخمة من الواضح أن المخابرات السورية هي التي زرعتها. عند ذلك قررت الحكومة الإسرائيلية دخول بيروت الغربية في تحرك كانت غايته الظاهرية حفظ النظام. وسمح الجيش الإسرائيلي لحليفته الكتائب اللبنانية بدخول مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين (بل لعله هو من أرسلهم). ارتكب الكتائبيون مجزرة في صبرا وشاتيلا فقتلوا نحو 700 شخص مثيرين غضب المجتمع الدولي والجمهور الإسرائيلي. ثم توصلت لجنة تحقيق إسرائيلية برئاسة القاضي كاهان إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون، وعدد من الأشخاص، يتحمل مسؤولية غير مباشرة عن هذه المجزرة، وأشارت إلى أنه كان يستطيع توقع إمكانية العنف ويستطيع التحرك لمنع وقوعه. أدى تقرير لجنة كاهان إلى استقالة شارون من وزارة الدفاع. وبعد ذلك بدأت إسرائيل تنسحب انسحاباً تدريجياً بطيئاً من لبنان. لكن الفوضى تزايدت في لبنان مع الانسحاب الإسرائيلي وصارت الاشتباكات وحوادث الاختطاف والتفجير سمة مميزة لحياة بيروت. فشلت محاولات الولايات المتحدة لإعادة الاستقرار بسبب تفجيرين انتحاريين كبيرين استهدفا مقر قوات المارينز والسفارة الأمريكية. انسحبت الولايات المتحدة من لبنان، من بيروت خاصة؛ وانزلق لبنان إلى الفوضى. ولم تتم استعادة النظام إلا بعد أن صار لبنان تابعاً لسورية من حيث الأساس. حافظت إسرائيل على وجود لها في جنوب لبنان حتى عام 2000 عندما انسحبت آخر الوحدات الإسرائيلية في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك.
قضية بولارد ـ في تشرين الثاني 1985، تم اعتقال جوناثان بولارد بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وهو مواطن أمريكي يهودي يعمل في مركز البحرية الأمريكية المخصص للإنذار بالهجمات الإرهابية. اعترف بولارد بالتجسس ضمن صفقة تتضمن العفو عنه، لكن الظاهر أن الحكومة الأمريكية نقضت هذه الصفقة فحكم على بولارد بالحبس مدى الحياة في عام 1987؛ وكان ذلك حكماً استثنائياً بالمقارنة مع القضايا المماثلة. شكلت هذه القضية إحراجاً كبيراً للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية وأثارت شبح اتهام الأمريكيين اليهود بـ "الولاء المزدوج". وفي الوقت عينه، صار بولارد مثالاً للعند اليمين الصهيوني الذي راح يقول إن الحكومة الإسرائيلية استخدمته ثم تخلت عنه إذ تقاعست عن ضمان حريته.
الانتفاضة الأولى ـ مع تضاؤل حظوظ منظمة التحرير الفلسطينية تولى الفلسطينيون في الأراضي المحتلة قضيتهم بأيديهم. بدأ في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987 تمردٌ فلسطيني أطلق عليه اسم الانتفاضة. انطلقت الانتفاضة من السكان المحليين ولم تشهد، في معظمها، إلا سوية منخفضة من العنف من قبيل قذف الحجارة فكسبت تعاطفاً مع نضال الفلسطينيين ضد المحتلين الإسرائيليين. انتهت الانتفاضة عام 1991، لكن القمع الإسرائيلي الواسع خلال هذه الفترة زرع بذور العنف في المستقبل (انظر، الانتفاضة الأولى).
آمي إيسيروف
نسخة محدثة، 3 تموز، 2008.
المصدر: شبكة الشرق الأوسط