وجه من تعشق الأرض ؟

وجه من تعشق الأرض ؟



للأرض رائحةٌ تؤرّقني
لأني ما زلت أحمل في القلب بعض التراب
و ما زلتُ أحمل في العين جرحا
و أطلبه مطراً
فيفيض غباراً و ملحا


ما زلتُ أعرف اِسمي
و أحزان أمي
و أحلامها الصادية


للأرض رائحة  تعذّبني
يثير بي َ الوجد أشواكها و السنابل
يفاجئني عشقها
كلما همست في المدى ساقية
رقصت نخلةٌ ساهية
ضحكت زهرةٌ في ضفاف جداول
فينتفض القلب
ينبض
قافيةً .. قافية


و حين أسائل عنها الذين
يجيبون أسئلة السائلين
يحارون صمتا
يضيعون بين الفواصل
و يختزلون الجواب :
( حياةٌ .. و موتى.. )


في الطفولةِ
حين أجبنا نداء السطور
ما علمونا هواها
الذين قرأنا لهم
ونقشنا كتاباتهم في الصدور
أوعدونا بعشق سواها
دمغوها بأوراقنا " لاغية "
و محوا اسمها في الكتاب
مزقوا رسمها
أحرقوه
و رماداً ذروه
يذوب بصمت العصور
فتسرب بين الشغاف و بين الشعاب
و أنبت حزناً و مقتا


قيل :
" ساحرةٌ فارجموها
هي تحمل سر التراب !! "


أمُّـنا .. هي !
تحت التراب تظل الجذور
فيها الحياة .. و فيها الممات..
و أسماؤنا و اصطخاب الشعور
حرّةٌ و استبيحت
هي  مثقلةٌ بأحزاننا ..!


قيل :
" بل هي أمّارة غاوية
و هي عاشقة للوجوه.. ! "


و منذ الطفولة ظل السؤال :
وجه من تعشق الأرض؟
و كيف ترى تعشق الأرض وجها؟
كل وجهٍ بها عابرٌ
و هي صامدة باقية!


و منذ الطفولة ظل السؤال
بأعين أطفالها يتردد
" نحن أولاد من؟
إخوة نحن  لكن أسماءنا تتعدد
و ميراثنا سنوات عذاب
و عمرٌ من التيهِ  في مهمهات الضباب
و خوفٌ من السيل ِ
إن جاء أغرقنا
و إن لم يجئ  سنموت هنا
ظمأ ً في صحارى اليباب


إخوةٌ نحن
مزّقنا زمن الاغتراب
كلُّ المرايا تشوِّهنا
و تلغي ملامحنا الماضية


أمّنا هي
يجمعنا نبضها
تظل برغم اليباب  هي الحانية


قيل:
" بل هي تأكل أولادها
و هي في جوعها ضارية
تحمل الخير لكنها تلد الموت ثانية


بكل مخاضٍ لها يتجدد
أولادها يوأدون
في مهدهم  مع أحرف أسمائهم يوعدون
ذا للصراعاتِ ..
ذا للمجاعاتِ..
ذا ليناضل..
و ذا ليغصّ بغربته في حداء  القوافل
و ذا ليموت من القهر ِ
يدمنه في المنازل
و من لا يموت من القهرِ
فلينس من كان
ينس اسمه لا يفوه
فالحرف أيضا خطيرٌ و قاتل "


قيل:
" كي لا تطالكم الأرض
لابد أن تتوارى الحقيقة
تنسون من أمُّكم
و ملامحَكم
تتبعون الوجوه الرفيقة
فهي حانيةٌ و صديقة
و هي عالمةٌ با لطريقة..  .. "


فتبعنا الوجوه
و أضعنا حروف اسمنا في الرمال المحيقة
و ظللنا بأودية الصمت  عمراً نتوه
نصدّق ما قيل عنّا و عنها
كل التهاويل .. كل الخطايا..


و ألِفنا الوجوه الكئيبة و الوجوه الغريبة
و الوجوه الرهيبة.. و القاسية
و تلك التي عشقت نفسها في المرايا
و التي نصبت نفسها
كالطوال الأوائل .. آمرة ناهية:
( لِتعشَ العيون
تطفئ أحلامها  لا ترى
فالعين حين ترى تتمرد
و قد تشتهي و تحاول
و تدرك أن المحال .. يطال.. ! )


فأطفأ كلٌ قناديله  و تبلّد
لم يعد للسؤال القديم ظلال
و اختفى الحرف في الظلمات العميقة


قيل:
" بل تعبدون الوجوه.. ! "


فقمنا لها نتعبّد
و انصرفنا نشيّد أعمدة و هياكل
نرتّل فيها الأغاني العتيقة
نشعل فيها المباخر بالعود و الند
نضمخها طيّب العطر و الغالية
فلم يطمس العطر رائحة الأرض
ظلّت بأنفاسنا باقية..!


حينما ينتهي زمن العشق في الصمت
و الغثيان الرهيب ستصحو
و تلمع في أفقنا نجمة الصبح
تبدأ في ومضها تتساءل:
" من ترى كان في البدء؟
هاذي الوجوه؟ أم الأرض كانت؟
من ترى سوف يبقى أخيرا؟


هل يجدّ جديدٌ مع الشمس
و الأرض لا تتجدّد؟.. "


ثم يعلو السؤال
مع الفجر يعلو السؤال
يشتدّ .. يمتد..
و تبدأ كل التماعاته تتداخل


افتحوا الآن أعينكم
لمّوا حروف اسمكم
فالارض في صدرها حفظتها لكم
و اقرأوا الآن سفر الحقيقة :
" كل ما كان أمس جديدا مثيرا
في امتحان القرون اهترا ثم زال
و الذي شيّدته السواعدُ
حباً و غصباً
تبدّد
و الصخر يشهد
و الرمل يشهد
لا تظل الوجوه إلى الغد
بل يظل التراب هنا
أولاً  .. و أخيرا.



د. ثريا العريّض
الظهران
1980





أحدث أقدم