الساحة الخضراء

sudansudansudansudansudan64

نظرت حولي باحثاً فلم أجد رفقائي، بحثت كثيراً دون جدوى، سرت بضع خطوات فوجدتهم كلٌ في ركن كجزر معزولة.....صحت بأعلى صوت أناديهم و لكنهم لم يستمعون، لم أتلق إلا صدى الصوت....اقتربت من أحدهم أحاول أن أحثه على الحديث....نظرت مليّاً في عينيه لأرى جواباً لسؤالٍ يلح على قلبي...في حين كنت لا أريد أن تلتقي عينانا أبداً حتى لا أرى ما أخشاه.
مرت الدقائق ثقيلة و أنا أتربص بعينيه و لكنه كان يروغ مني و سألته بحزم:
- أين أنا؟
لم أتلق إجابة لسؤالي رغم بساطته و تركني و ذهب يلتمس ركنه البعيد مرة أخرى ينظر للأرض يراقب خطواته أو يحصيها.
دار رأسي و أحسست برجفة قوية تحتضن جسدي كله....قشعريرة تسري في كل أوصالي بعدما تملكني الجواب الذي لم يصلني و كنت أهرب من سماعه .
لحظات مرّت عليّ و أنا متجمد مكاني و بدأ الرفاق في التحرك ببطء يبحثون عن بعضهم البعض....ثم سمعت صيحة تأتي من خلف أسوار الزمان و المكان:
- هلموا....هلموا جميعاً
رأيتهم يلتحمون بعد النداء و وجدت نفسي منساقاً له....أسعى للالتحام بهم....لأتدفأ بهم....أندمج فيهم....أذوب.....
لم أدر إلا و الجمع أصبح كائناً واحداً صدّاحاً ضاحكاً ساخرا، كتلة من المشاعر و الآمال التحمت يغلفها دمع الأمل...لم أعد أحس بالجوع أو العطش....بل لم أعد أحس بأطرافي أو بقية جسدي....هرب من بيننا الخوف ...فر يجر أذيال الخيبة ، و أحسست ساعتها أن رأسي طاولت السحاب.
نظرت إلى الساحة -و التي امتلأت عن آخرها- ....و تعجبت فكلهم يشبهونني....نفس الملامح....نفس الأفكار....نفس الصوت الذي خرج صداحاً من حناجرنا.
مر القليل من الوقت و لم تدم فرحة الدفء كثيرا....فلقد حامت حول الساحة و فوقها غربان سود متشحة بالظلام، تحاول أن تستر الشمس عن عيوننا التي بدأت في التعود على ضيائها.
كثر عددهم و نشروا أجنحتهم كخيمة فوق الرؤوس و زاد نعيقهم و لكننا لم نلتفت إليهم و علا صوتنا أكثر و أكثر فأخافهم جميعاً و تواروا خلف الأشجار في خلفية المشهد.
ازداد ضياء الشمس بهاءً ، و تحول المشهد أخيراً للخضار، فلقد نبتت الأغصان في قلوب الجميع و تفتحت الأزهار في العيون، و رغم سقوط البعض تحت الأقدام و لكن الإصرار على الدفء قد ازداد، ثم رأيت من سقطوا يحومون بأجنحة شفافة حول الساحة يبتسمون و يباركون الجميع، و يطاردون الجبناء الذين تواروا خلف جلودهم يخشون عاقبة لا وجود لها إلا في عقولهم، تؤنبهم و تحثهم على خلع جلودهم و الانضمام للمشهد الأخضر في ساحة الحرية.
ثم نادى منادٍ : أيها الحالمون أفيقوا من سباتكم، لن يرجى من تجمعكم و خضاركم إلا الدمار و المزيد من الدماء .
لم نتحرك....لم نلتفت...بل لم يرتد إلينا الطرف...كان كل همنا أن نكمل نماء الأغصان و الأزهار كي تثمر...و كلما علا صياح الضلال كانت الأغصان تزداد اخضرارا حتى أثمرت أخيراً و بدأت الثمرات في التساقط حولنا، فبدأنا نقذف الناعق فوق رؤوسنا بها
- اصمت فليس لك مكان بيننا.....اصمت فلسنا بسامعين....اصمت فلسنا بطائعين
خفت الصوت و توارى خلف صوت آخر حل محله بأمنيات عِذابٍ و وعود وردية.....ما لبثت الكلمات إلا أن أصبحت حجارة تمطرنا من سحب سوداء غبية.....تقذف مع الحجارة غضباً لم تخجل أن تخفيه و حشدت من أجله كل قوي الحمق و الغباء التي استعر في قلوبهم نار الغل و الخوف من اللون الأخضر.
الخضار ملأ الساحة حتى تعداها و الثمار المتساقطة حولنا زادت حتى علت فأصبحت جداراً يحمينا من حجارة الغضب الأحمق.
الزحف الأخضر ملأ الساحة و انتشر حتى وصل إلى البيوت و الدكاكين و الأسواق، اخترق الصدور فلبت النداء....و خرجت الجموع غفيرة تحمل آمال خضراء لتلتحم بالساحة التي لم يعد فيها موضع لقدم
جن جنون الحُمق و بدأ في الهذيان....بدأ يبتعد عن الحقيقة و يتوارى خلف غبائه الذي لم يفارقه طول حياته لحظة واحدة
أصرّت الجموع على نداء واحد لم تبدله حتى ملّ الغبي من غبائه و اضطر أخيراً أن يفهم، و كانت نهايته عندما فهم، و رأته الجموع صغيراً حقيراً مربوط بخيوط من أطرافه يحركها أصابع المجهول....و خيط خامس يمتد من رأسه إلى منقار أحد الغربان التي تترقب من خلف الستار....فهم أخيراً و لكن كعادته متأخراً جدا.
هُزم الخوف مرة أخرى و التحمت الجموع متدفئة بالأمل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى، هرب الخوف أخيرا مع الحمق و الغباء في صحبة الدمية الحمقاء.
تنفست الساحة الصعداء و ظننا أن المشهد قد انتهى كما نريد، لم ندرك وقتها أن الخديعة قد طبخت و يقومون بالانتهاء من لمساتها الأخيرة خلف الأسوار.....توهمنا أننا قد قهرنا الغباء و كذبنا أوهامنا ....فليس من المعقول أن يضمر المبتسم في وجهك خداعاً و قد قابلته بنقاء و سلمته بيدك كل الثمار التي تساقطت حولك في ساحة الحرية.
انفضت الجموع و لم يلاحظوا أن الغربان قد خرجت مرة أخرى يلبسون ثياب بيضاء يحملون في مناقيرهم أغصان الزيتون.
انفضوا عندما ألقت الغربان الأغصان تحية لهم....ففرحوا و انحنوا يلتقطونها و هم يرقصون و يغنون و يبكون، و بعد أن غادروا خلعت الغربان ثيابها و عادت لسيرتها الأولى و كرسوا كل جهودهم ألا يعود الجمع مرة أخرى للساحة و ألا يعودون للتلاحم مرة أخرى و لو كان الثمن أن تكتسي الأرض بلون الدماء مرّات أخرى، فلقد أقسموا و تعاهدوا على مطاردتنا جميعاً في الأزقة و الحارات بل في البيوت و في غرف النوم، عادت الأمور لسيرتها الأولى و لكن كان هناك صوت محموم يدمدم خلف المشهد يعلو شيئاً فشيئا يصدح بأعلى صوت: عائدون!!

بقلم: أحمد كمال نجم الدين

إرسال تعليق

أحدث أقدم