رؤية متفردة خارج الصندوق

أحياناً حين أتوقف لتأمل إستراتيجياتنا في اتخاذ القرار لا أستطيع إلا الحكم بيني ونفسي أن هناك مؤخراً رؤية مختلفة عما عهدناه وما نتوقعه بناء على ماضينا. وفي مجال دراسة صنع القرار «التفكير خارج الصندوق» هو الاسم العلمي لمثل هذه التوجه لـ» الرؤية المتفردة» التي تخرج عن المعروف والمتوقع والمجرب من قبل. 

أشعر أن القرارات الأخيرة بنيت على رؤية بعيدة المدى ومتسعة الأفق تركز على التفاصيل والنتائج كرؤية زرقاء في أفقها القديم. وفي حين قد لا يفهم البعض الخلفية التخطيطية التي تؤسس لهذه القرارات, أتفهمها جيداً كمتخصصة في التخطيط. مثلاً في مواجهة ما بعد أحداث الإرهاب القريب والبعيد, بعد أن اختطفت الدعوات المتطرفة كثيرين من شبابنا إلى حيث لقي بعضهم حتفه, وسجن بعضهم في جوانتنامو وسجون العراق وسوريا وغيرها من ميادين الصراعات الدولية, فعلت المملكة ما لم يفعله أحد قبلها في مثل هذا الموقف.. لم تنصب المشانق للردع, بل دعتهم لتسليم أنفسهم ثم لم تغدر بهم كما فعلت وتفعل أنظمة غيرها. وبناءً على مبدأ الرؤية الأبعد, قررت بتوجه أبوي أن تحاول استعادتهم من براثن الجذب المضلل, وتمنحهم فرصة التفكير في موقفهم واستعادة السيطرة على مصير مستقبلهم عبر برامج للمناصحة. وقد استفاد منها البعض العاقل فمنحته فرصة ثمينة للعودة إلى الوعي والحياة. وبهذا حافظت المملكة على ولاء آبائهم ووضحت أن القضية بينها وبين المضللين ليست علاقة عداء وانتقام، وأن خروج بعضهم عن مسؤولية المواطنة لا يعني عدم محاولة استعادتهم إليها بالحسنى. وهكذا كان؛ ولعله كان أنجح برنامج في تقويض مكاسب استقطاب الشباب إلى شبكات الإرهاب. ثم لم يكن من المتوقع أن يستجيب الجميع؛ ولا حدث ذلك. وبهذا اتضح الفرق بين المضللين والرؤوس المضللة. 

ولقد كانت تجربة المملكة في هذا الجانب موضع مراقبة ودراسة من الدول الكبرى التي لاحقاً أشادت بما تحقق عبرها من نتائج إيجابية. وبالتأكيد لحكمة ولي العهد سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز وتجربته الطويلة كوزير للداخلية ومسؤول أول عن الأمن واستقرار البلاد دور مهم في هذه المبادرة بالذات. وبعيداً عن تقبلها أوعدم تقبلها من البعض, فإنها غيرت فكر الكثير من الشباب حين رأوا تراجع المضللين واعترافاتهم بالمعاناة التي مروا بها ولم تكن في حسابهم. 

وهناك مبادرات أخرى اتخذت فيها المملكة موقفاً متفرداً, غالباً لم يفهم البعض عمق الرؤية التي توصلت إلى إقراره. حين وضع خادم الحرمين الشريفين على طاولة المفاوضات مبادرته أن يقنن السلام والحدود بين الدول العربية وإسرائيل, ويربط بشرط عودة إسرائيل إلى ماقبل حدود 1967, كشف لعبة إسرائيل المتباكية أبداً خوفاً على أمنها من العرب المتربصين بها. وطبعاً كان متوقعاً أن إسرائيل لن تقبل مثل هذا العرض حتى وهو إجابة مباشرة لشكواها من افتقارها للسلام. ولا تقبّل المبادرة من يدعمون إسرائيل وهم يعلمون بزيف موقفها وحلمها بخارطة لا يتوقف تمددها بينما تظل تتذرع بحماية أمنها. 

وحين دعا الملك عبدالله إلى الإنتقال بمجلس التعاون إلى مرحلة الاتحاد لم يكن في باله ولا نية المملكة العربية السعودية أن تلتهم الشقيقات الخليجيات الأصغر كما تصور بعض الشكاكين, ولا أن تحولها إلى سرب ينفذ قراراتها دون استقلالية في الرأي. بل كان القصد أن تتحول التحايا المناسباتية إلى حقيقة فاعلة تحمي كيان المنطقة من تطلعات وتهيؤات من يحلم بعدوان على استقلالية أي عضو في الاتحاد. 

ومثل القرار الأسبق انكشفت الحقائق؛ أعلنت إيران الإعتراض على فكرة الاتحاد حتى قبل أن تنفذ؛ بل ووقف أعضاء في البرلمان الإيراني يعلنون تبعية البحرين لإيران, بينما يؤكد غيرهم ملكية الجزر الإماراتية المحتلة بذريعة أنها اشتريت من حاكم سابق! وسواء كان هذا حقيقة أم افتراء واختلاقاً، هو طبعاً تدخل سافر في الشئون الداخلية لجارات يتمتعن بالاستقلالية في القرارات المصيرية. 

لقد ملأني الحزن كطفلة صغيرة حلمت أن يعلن الاتحاد الخليجي حالاً, ولكني كمتخصصة علمياً أدرك أيضاً أن مثل هذه القرارات لابد أن تبنى على أسس من التقبل الكامل من كل الأعضاء وفئات سكانها. وبكل الثقة أن المملكة لاتحتاج المزيد من الأرض أو الموارد بل اقترحت قرارا من منطلق محبة أخوية ومسؤولية بأهمية الأمن المشترك. أقول مبادرات المملكة العربية السعودية برؤية خادم الجرمين الشريفين تليق بموقعها كالشقيقة الكبرى عربياً وخليجياً. 






إرسال تعليق

أحدث أقدم