إضافات هندية إلى بلاغة العرب كتاب (سبحة المرجان في آثار هندوستان) نموذجاً

د.عيسى علي العاكوب(*)

books

أنا أعجميّ الدنَّ لكن خمرتي

صنعُ الحجاز وكرمها الفينانِ

إن كان لي نغمُ الهنود ولحنهم

لكنّ هذا الصوت من عدنـانِ

محمد إقبال

الملخّص

كان للإسلام العظيم أن يفتح الأنفس والآفاق في أصقاع الأرض المختلفة لتتلقى العربية بقدر كبير من التقدير والاستحسان والقدسية، وشاء المولى سبحانه أن يتعلم كثير من ساكني ديار الهند العربيةَ وينشئوا بها تآليفَ وآثاراً ظلت شاهدةً على علو أقدارهم في الإبداع بالعربية، في علوم التفسير والفقه والأُصول، وفي الأدب شعراً ونثراً، وفي العلوم المختلفة التي احتضنها الإسلام.

ويسعى هذا البحث إلى تقديم مثال من أمثلة التأثر والتأثير بين بلاغة العرب وبلاغة الهند بعد الإسلام، إثر تعرف كثير من أهل الهند كلام العرب وخاصيات تفوقه وآيات الإبداع فيه. وذلك من خلال واحد من الكتب الهندية المؤلفة بالعربية، وهو كتاب «سبحة المرجان في آثار هندوستان» لمؤلفه السيد غلام علي البلكرامي، الذي حققه الدكتور محمد فضل الرّحمن الندوي السيواني، ونشره معهد الدراسات الإسلامية في جامعة علي كَره الإسلامية في الهند.

وسيركز البحث على المحسنات التي نُقلت من الهندية إلى العربية كاشفةً عن آفاق جديدة في جمال الكلام المبدع بالعربية، وإمكانات كثيرة لاستنباط مجالات جديدة في بلاغة هذا الكلام في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف، وفي أشعار العرب. الأمر الذي يبنى عليه إمكانية القول إنّ اتقان المتحدث بالعربية لغة أُخرى غيرها يمكن من اكتشاف تجليات جديدة لعبقرية هذه اللغة التي أكرمها خالق الألسنة المختلفة وجاعل الملائكة أُولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع.

وسيظل البحث يلحظ سلطان التأثر والتأثير والتفاعل في ثقافة عالِم متمكن من الثقافتين العربية الإسلامية والهندية، ومن علوم البلاغة في لغتي هاتين الثقافتين، مضيفاً إلى ذلك اطلاعاً يبدو جيداً على ثقافات ولغات أُخر كالفارسية. ويقدم جهدُ المؤلف في هذا الكتاب صورةً للمبدع المسلم ـ غير العربيّ ـ الحريص على إغناء العربية والاغتناء بها، المبتهج في الوقت نفسه بإنجازات أبناء جنسه في الميادين المختلفة، خاصًّاً منها ميدان البيان والبلاغة والبراعة باهتمام متميز. ولعلّ منقبة البيان عند العرب المثيرُ الأوّل لاهتمامه بجمال الكلام وبلاغته على الجملة.

في الصلات الثقافية بين العرب والأهاند:

ليس من شأن هذه الورقة أن تقدّم صورة تاريخية دقيقة للصلات الثقافية العربية الهندية في العصور التي سبقت حركة التأليف العربية التي اشتدّ عودها بدءاً من نهاية القرن الأوّل ومطلع القرن الثاني الهجريين. لكنه من المعروف تماماً في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية أنّ لبعض الهنود أوليةً واضحة المعالم وسبقاً لا تخطئه عين المتأمّل في الإسهام في التفكير البيانيّ عند العرب بدءاً من مطلع العصر العباسيّ الأوّل. وهو سبق تجلّى في غير قليل من المرويات التي تحدّثنا عن استشارة بعض أهل الهند في شأن ماهيّة البلاغة وأصولها والقول الجامع المانع فيها، كالذي نجده في الجزء الأوّل من كتاب البيان والتبيين لأمير البيان العربي الجاحظ (150 ـ 255هـ)، حين يورد شيئاً مما كان متداولا في ذلك العصر وفي حاضرة الدولة العباسيّة من السؤال عن المراد بالبلاغة، ويذكر الصحيفة الهندية في البلاغة التي يثبت لنا شطراً منها مترجماً إلى العربية([1]).

والذي يُستدلّ عليه من كثير من القرائن والإشارات أنّ بلاغة الكلام لدى أهل الهند كانت من الأمور التي تحتفي بها الذاكرة الجمعية الهندية، لاسيمّا أنّ الهند عُرفت منذ القدم بالحكمة والتأمّل والاهتمام بالفِكَر العالية، وهو أمرٌ مرتبط بالبلاغة كما يفهم من الآية الكريمة (وآتيناه الحكمة وفصْلَ الخطاب) (سورة ص، الآية 20).

وإذا كنّا لا نملك التحديد الدقيق لمبلغ معرفة العرب للهنود وعلومهم وثقافاتهم وحضارتهم في القرون الأولى فثمة بعض البيّنات التي تشير إلى احترام العرب لأمة الهند منذ وقت مبكّر، ولعلّ من ذلك ما يقول الجاحظ: «وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع: العربُ وفارس والهند والرّوم؛ والباقون همجٌ وأشباه الهمج»([2]).

على أنّ بعض ما نُقل عن أهل الهند في شأن البلاغة والبيان واللَّسَن يشير إلى خبرة عميقة وتشقيق واسع ومعالجة ناضجة لصفاتِ المتكلّم البليغ أو صانع البيان الذي يُنتظر منه أن يُبلغ كُنه مراده إلى مخاطَبه محْدِثاً في نفسه أبلغ الأثر([3]).

ويمكن القول باطمئنان تامّ إنّ مباحث الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة([4]) كانت واحداً من مجالات التفاعل الحضاري والثقافي بين العرب والأمم الأخرى التي تهيّأ لها أن تستظلّ بظلّ الإسلام وتسهم في رفد جداوله الثقافية والحضارية. ويكفي فيما يتصل بالهند أن يشير المرء على سبيل المثال فقط إلى كثير من الأخبار التي يرويها الجاحظ في شان البيان والبلاغة عن رجل هندي الأصل هو إبراهيم بن السنديّ كقوله مثلاً: «وأخبرني إبراهيم بن السنديّ» قال: «دخل العمانيّ الراجز على الرشيد لينشده شعراً، وعليه قلنسوة طويلة وخفّ ساذج، فقال: إيّاك أن تنشدني إلا وعليك عمامةٌ عظيمةُ الكَوْر، وخُفّانِ دُمالقان. ..»([5]).

والحقيقة أنّ إبراهيم بن السنديّ هذا كان واحداً ممّن بنى الجاحظ تفكيره البلاغي مستوحياً وجهات نظرهم وتعليقاتهم في مجال النظر العقليّ في البلاغة.

وقد كان الإسهام الفارسيّ في التفكير البلاغي العربي أكبر من إسهامات الأمم الأخرى التي قيّض للعرب أن يتصلوا بثقافتها ويتفاعلوا معها، ويجد المرء تمثيلاً جليّاً جداً للتفاعل بين البلاغتين العربية والفارسية في كتاب متأخر نسبيّاً هو «حدائق السحر في دقائق الشعر» لرشيد الدين الوطواط([6]). بل إنّ بعض أمثلة الأنواع البديعية العربية ترجمة لأمثلة فارسية([7]).

ويظلّ للهند إسهام واضحٌ وجهد مُجلّ في ميدان البلاغة العربية حين يضع المرء في الحسبان جهود العلامة عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة([8]).

ويهمنا في هذه الورقة أن نتحدّث عن نموذج من نماذج التفاعل الثقافي في مجال التأليف البلاغيّ بين العرب والهنود، وذلكم هو كتاب «سبحة المرجان في آثار هندوستان» لمؤلفه مولانا غلام علي آزاد البلغرامي، رحمه الله.

وسيسلك حديثنا عن هذا النموذج الطريق الآتي:

1ـ مؤلَّف «سبحة المرجان في آثار هندوستان».

2ـ كتاب سبحة المرجان والشطر البلاغيّ منه. وفي هذه المندوحة سنتحدث عن:

          أ ـ      كتاب سبحة المرجان.

          ب ـ     الجزء البلاغي من الكتاب.

          ج ـ     دوافع المؤلَّف إلى التأليف في المحسّنات الكلامية العربية.

          د ـ      التفاعل الثقافي في ذهن مؤلَّف سبحة المرجان.

          هـ ـ   قيمة المنجَز البلاغي الذي أتى به المؤلّف.

3ـ القول الفصل والرأي الأخير.

1 ـ مؤلّفُ سبحة المرجان :

هو الشيخ العلامة مير غلام علي آزاد البلغرامي الحسيني الواسطي. كان ميلاده في بلدة «بلغرام» الهندية في الخامس والعشرين من شهر صفر، عام 1116هـ /1704م. أكمل دراسة الكتب الدراسية على السيد طفيل محمد. ودرس على جده لوالدته الشيخ عبد الجليل البلغرامي علومَ العربية، والسيرة النبوية، والحديث الشريف، والشعر العربي والفارسي. أدى فريضة الحج إذ تشرف بزيارة الحرمين الشريفين سنة 1151هـ، فلقي علماءهما واستفاد منهم، ثم قفل إلى الهند، واستوطن مدينة «أورنغ آباد» في جنوبي الهند. ثم وافته المنية في هذه الحاضرة سنة 1200هـ/1885م، بعد أن ملأ الدنيا بمؤلّفاته التي من أهمها: ضوء الدراري في شرح صحيح البخاري، وتسلية الفؤاد (شعر)، وتراجم العلماء، وشفاء العليل، وغزلان الهند، وسرور آزاد، واليد البيضاء، والخزانة العامرة، ومآثر الكرام في تاريخ بلغرام، وهذه الثلاثة الأخيرة بالفارسية، والسّبعة السيارة وهي سبعة دواوين شعرية عربية له. وأهمّ كتبه كتابه الذي جعلنا شطراً منه مادّة لتأملاتنا في هذه الورقة: سبحة المرجان في آثار هندوستان([9]).

كان مولانا غلام علي آزاد من الشعراء الكبار الغزيري الإنتاج الشعري في اللغة العربية، وقد غلب على قريضه النظمُ في المديح النبوي مما جعل ملك اليمن في زمانه يلقبه بـ «حسّان الهند»([10]). وكان يقال: «إنّ الهند لم ينظم فيها أحد القصائد العربية على النمط الذي جاء به العلامة غلام علي آزاد»([11]). وهو يقول عن نفسه في مقدّمة الديوان السابع: «إني صرفتُ العمر في مذاكرة العلوم العربية، وشمرتُ الذيل في مزاولة الفنون الأدبية، ونظمتُ من الخرائد ما يجلو نواظر البصراء، وجمعت من الفرائد ما تقرّ به عيون الأدباء، إلى أن رتّبتُ بعونه تعالى سبعة دواوين، ووزنت الجواهر الزواهر بسبعة موازين، وسمّيتُ الدواوين السبعة بالسبعة السيارة»([12]). ومما جاء في ديوانه الأول في مدح النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام:

برهـانُ ربَّ العالمينَ حبيبه

في الأمّـة الأمّيّـةِ العربـاءِ

هو نيَّرٌ أسنى الكواكب ساطعٌ

مـــلأ الأهلّةَ كلَّها بسناءِ

من معشر الإنسان إلا أنّه

إنسـانُ عين المجدِ والعلياءِ

شمسٌ تجلّتْ غير أنّ مسيرها

فوق الطريق بليلة الإسـراءِ

يومَ القتالِ من السيوف ظلالهُ

ويقوم في العرصاتِ تحت لواءِ

هو سابقٌ وظهوره متأخرٌ

كنتيجــة الإشكـال للعلماء([13])

وتبدي آثار مؤلَّف سبحة المرجان تمكّنا واضحاً من العربية، تمكّنا مكّنه في معظم الأحيان في الجزء الخاصّ بالبلاغة من هذا الكتاب من الإتيان بأمثلة شعرية من نظمه هو لتكون شواهد للنوع البديعيّ الذي يعالجه. وفي مستطاع المرء أن يقول إنّ هذه خصيصة للمؤلّف وللكتاب معاً؛ فإنّك لن تظفر في تاريخ التأليف البلاغي العربي بمن تطاوعه اللّغة فيأتي بأمثلة للصيغ البيانية والبديعية من نظمه هو بهذه الغزارة والمرونة والتدفق التي نأنسها في مبدعات السيد غلام علي آزاد في سبحة المرجان. بل في مستطاع المرء أن يقول إنّ عربيّة القرآن أضحت جنسيّةً nationality له، مثلما يبيّن العلامة مصطفى صادق الرافعي وهو يتحدث عن سلطان لغة القرآن على ألسنة العرب مما لا يستطيعون منه فكاكا: «فالعربيةُ قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسيّ، حتى صارت جنسيةً، فلو جُنّ كلّ أهلها وسخوا بعقولهم على ما زيّنت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . لحفظها الشعورُ النفسيّ وحده، وهو مادّة العقل بل مادّة الحياة. وقد يكون العقلُ في يد صاحبه يضنّ به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله»، وهذا من تأويل قوله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾([14]).

والأمر الذي يبدو عيانيّاً للمتأمّل أنّ السيد غلام علي آزاد أقدم على تناول قضايا البيان والبلاغة وهو مهيّأ بأدوات معرفية وقدرات على الاستنباط والاستخراج عزيزة النظير؛ إذ يبدو في مناقشاته عالمَ لغةٍ متمكّناً ونحويّاً خبيراً بمراوغات الكلام العربي ومنطقيّا ممتلكا زمام الحدود والقضايا والاستنتاجات، ناهيك عن كونه فقيهاً وأصوليّاً وشاعراً بالعربية والفارسية، وذا خبرة بلغات بلده الهند. ولعلك تأنس هذا الذي ننسبه إليه في تحليله الحسَن والقبيح في الشعر، إذ يقول: «والمقصد أنّ الشعر ليس في نفسه مذموماً، بل الحسْنُ والقبح راجعان إلى المعنى، والمعنى إذا كان قبيحاً فالمنثورُ والمنظوم من القول فيه سواء. ومعنى القبيح أن يكون فيه فحشٌ وأذى لمسلم أو كذب، والكذبُ الممنوع في الشعر ما كان مضرّاً بأمر دينيّ، لا الكذب الذي أُتي به لتحسين الشعر فقط؛ فإنّه مأذون فيه، وإن استغرق الحدّ وتجاوز المعتاد». ألا ترى قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه، فإنّه تغزّل فيها بسعاد وأتى من الإغراقات والاستعارات والتشبيهات بكلّ بديع، لاسيما تشبيه الرضاب بالرّاح في قوله:

تجلو عوارض َ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمت

كأنّه منهلٌ بالراح معلولُ

والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمعه وما أنكر، بل صارت هذه القصيدةُ أحسنَ الرسائل إلى الشفاعة وأوثق الذرائع إلى الإغماض عن الشناعة، وفازت بحُسْن القبول من جنابه، وجازى قائلها بعطية من جلبابه، ولله درّ الغزّي حيث قال:

محت بانتْ سُعادُ ذنوبَ كعبٍ

وأعلتْ كعْبَه في كلّ ناد([15])

وقد ضمّ المؤلَّف إلى هذا كلّه اطلاعاً واسعاً على مصادر الثقافة العربية في البلاغة وغيرها، وكان يُظهر بين الفينة والأخرى احتراماً للعرب الأقحاح أرباب هذه اللغة، ويعلن افتخاره بمحاكاتهم وسلوك مسالكهم في إنتاج الكلام البليغ وفي تحديد جمالياته. ومن ذلك مثلاً ما يقوله في الفصل الثالث في المقالة الخامسة حين يتحدث في التقديم لقصيدته البديعية عن أعلام مؤلّفي البديعيات العرب: «وهؤلاء الجماعة كلّهم عربٌ عرباء وأئمةٌ أجلاء، وأنا سلكتُ منهج تقليدهم وسللتُ المهند بتأييدهم، وربما يفعل الضعيفُ فعلَ الأقوياء، والنسيم العليل يفرّح أمزجة الأصحاء، والأدباء والكملاء إذا التفتوا فهو غايةُ الإحسان، وإن أعرضوا فهو تنبيه على النقصان»([16]).

بل يكثر المؤلّف من تكرار تعبير «العرب العرباء» في الفصل الخاص بالبلاغة من كتاب سبحة المرجان. ويلحّ على فكرة أنّه إنما نقل شيئاً من مخترعات الهنود في الأنواع البديعيّة لعلّ العرب الفصحاء يستحسنونها ويتقبلونها بقبول حسن، كما يظهر في قوله في مقدّمة الجزء الثاني من سبحة المرجان: «وأرجو من العرب العرباء أن يستحسنوا مخترعات الأهاند كما استحسنوا الأسياف الهندية بين الفراند»([17]).

وعلى غرار كثير من أبناء أرومته، كالعلامة عبد الحميد الفراهي وغيره، يبدي السيد غلام علي آزاد إعجاباً نادر المثال باللّغة العربية والكلام العربيّ، ويحدّد خصائص جمالية أستطيقية aesthetic محسوسة للغة العرب، غير موجودة في أيّة لغة أخرى. ومن ذلك مثلا ما جاء في قوله:

«فليُعلَمْ أنّ لسان العرب كرامةٌ ظهرت على لسان واضعه، ولا يقدر أحدٌ أن يضع لساناً آخر مثله، فكيف الزائد عليه حُسْنا. نعم اللطافةُ التي منحها الله تعالى لسانَ العرب ليست في لسان الفُرس ولا في جميع ألسنة الهند، بل في الألسنة الأخر أيضاً. والمخارجُ التي هي مختصة بالعربية في غاية اللطافة، كالثاء المثلّثة والحاء المهملة والصّاد المهملة والضاد المعجمة والطاء المهملة والظاء المعجمة والعين المهملة، بخلاف مخارج الألسنة الأخر كالباء الفارسية والزاي الفارسية والثاء الهندية والدال الهندية والرّاء الهندية والهاء المختفية من الهندية. فأربابُ الأذواق السليمة الذين هم واقفون على الألسنة المختلفة ومجبولون على شيمة الإنصاف، يحكمون بأنّ المخارج المختصة بالعرب ألطفُ وأشرفُ من المخارج المختصة بغيرهم»([18]).

بل لا يجد المؤلف حرجاً في استبعاد نوع من الأنواع البديعية استنبطه أحدُ أساطين شعراء الهند وأعلام مؤلّفيهم هو الأمير خسرو الدهلوي؛ لأنه يشق على العرب العرباء ولا يتحسسون جماله. وهكذا نجده وهو في صدد الحديث عن نوعين بديعيين اخترعهما الأمير خسرو الدهلوي يقول: «والأمثلة التي أوردها الأمير لهذين النوعين في كتابه المسمى بالإعجاز الخسروي مشحونة بالتكلّف تمجّها المسامع الكريمة وتردّها الطبائع السليمة؛ ولهذا ما اخترتهما لكتابي هذا، ولأنهما يشقّان على العرب العرباء الذين لا يعرفون اللسان الفارسي»([19]).

وحتى عندما يُثني المؤلّف على الهنود وبلائهم الحسن في ميدان علوم البلاغة يُشعر قارئه بأنّه إنما يفعل ذلك بشيء من التجاوز ومجافاة الصواب والدقة، ذلك لأنّ البلاغة الحقيقية، في رأيه، والإدلاء بآراء قويمة في شأن أمثلتها ونماذجها، إنما هو حق معلوم للعرب وحدهم. ويأتيك التعبير عن هذا الهاجس في مثل قوله عن كتابه هذا: «وفي هذا الكتاب نوعٌ من مدح الهنود وضربٌ من نصرة هؤلاء الجنود، ولا بأس به. أما ترى الشريفَ الرّضيّ رثى أبا إسحاق الصابئ بقصيدة طويلة طنانة طالعتُ تمامها في ديوانه، منها:

أعلمتَ مَن حملوا على الأعواد

أرأيت كيف خبا ضياءُ النادي؟

جبلٌ هوى لو خرّ في البحر اغتدى

من وقعـــه متتابعَ الأزباد

ما كنتُ أعلَمُ قبْلَ حطّك في الثرى

أنّ الثرى يعلو على الأطوادِ

وعاتبه الناسُ على رثائه فقال: إنما رثيتُ فضلَه»([20]).

والحقيقة المقرّرة أن قارئ سبحة المرجان يخرج بانطباع واضح المعالم مؤدّاه أن مؤلّف هذا الكتاب يمثَّل نموذجاً لمن تفاعل في إدراكه وثقافته وإبداعه عناصرُ ثقافية وحضارية متعدّدة المصادر مختلفة الأجناس. وبرغم أنّ مؤلّف الكتاب قصد من تأليف هذا الأثر إلى أن يبرز مآثر الهند من أصناف العلوم والفنون والمخترعات، كان منشغلاً جدّا بالخصائص الذهنية والطبيعية للأجناس المختلفة. وربّما كان يروقه كثيراً أن يظفر بوشيجةٍ في الطباع تجمع بين العرب والهنود، كالذي يعبّر عنه قوله نقلاً عن صاحب كشف الظنون: «ومن ثمّ المِللُ الأربعةُ العربُ والعجم والروم والهند. ثم العربُ والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثرُ ميلهم إلى تقرير خواصّ الأشياء والحكم بأحكام الماهيات واستعمال الأمور الروحانيات. والعجمُ والروم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانيات»([21]).

وربّما بدا هذا التفاعل الثقافي الحضاريّ في ذهن المؤلّف على أشدّه في حديثه عن فنّ بديعيّ هنديّ سمّاه «تشبيه التقوية»، ومثّل له بقول عمرو بن كلثوم في معلّقته:

تُريكَ إذا دخلتَ على خلاءٍ

وقد أمنتْ عيونَ الكاشحينا

ذراعَيْ عيطل أدماءَ بَكْرٍ

تربّعتِ الأجارعَ والمتونا([22])

إذ يقول معلّقاً على هذين البيتين:

تريكَ هذه المرأةُ إذا أتيتَها في خلوةٍ والحال أنّها أمنت عيون الأعداء.. ذراعين ممتلئتين لحماً كذراعي ناقة طويلة العنق بيضاءَ فتيّة رعت أيام الرّبيع في هذه المواضع واستوعبت أمكنة الرّعي؛ مبالغةً في سِمَنها وطراوة شبابها.

اعلم أنّ العرب مدارُ معيشتهم على المواشي لاسيما الإبل، ولذلك قدّمها الله تعالى في الآية الكريمة على الأشياء الأخر. وكلّ جيلٍ من الناس يعجبهم ما يتأنّسون فيستعملونه في كلامهم. ومن ثم كثر ذِكْرُ الإبل في أشعار العرب وذكر البقرة في كلام الأهاند؛ فإنّها كثيرة الوجود في بلاد الهند، والأهاند يعبدونها. فتشبيه ذراع المعشوقة بذراع الناقة في شعر عمرو بن كلثوم مبنيّ على هذا. كما أنّ الأهاند يشبّهون مشية المعشوقة بمشية الفيل، وفي مشيته حسنٌ يظهر بعد الأنَسة. ويشبهون أنف المعشوقة بمنقار الببغاء. والفرس يشبهون مشية المعشوقة بمشية الحجلة، وهي طائر فارسيّته كبك، وأكثر ما يوجد في الجبال([23]).

2 ـ كتابُ (سبحة المرجان)، والشطر البلاغي منه:

أ ـ كتاب سبحة المرجان:

ألّف السيد غلام علي آزاد مؤلّفات كثيرة ومتنوعة ذكرنا شيئاً عنها قبل. ولكن أهم كتبه إنما هو كتاب «سبحة المرجان في آثار هندوستان» الذي قال عنه الدكتور محمّد فضل الرّحمن الندوي السّيواني محقّقه: «سبحة المرجان في آثار هندوستان كتاب جمع فوائد جمّة كما أشرتُ في مقدّمة المجلّد الأوّل باللغة الإنكليزية، ويحتوي مباحث شتى تتعلّق بالهند وعلومها الأخرى. وفي المجلّد الثاني الذي بين أيدي العلماء الآن الصناعاتُ الأدبية مقتبسة من الكتب الهندية (السنسكريتية) وفنونها، فأجاد المصنف الكتابة فيها»([24]).

وينطوي الكتاب على أربعة فصول هي:

فيما جاء من ذكر الهند في التفسير والحديث.

في ذكر العلماء أنار الله براهينهم.

في محسّنات الكلام.

في العشّاق والمعشوقات.

وقد كان الكتاب في صورته الأصلية في مجلّد واحد، لكنّ المرحوم الدكتور محمد فضل الرحمن الندوي الذي درسَ الكتاب وحققه ونال به درجة الدكتوراه في جامعة عليكره الإسلامية عام 1976م، نشره في مجلّدين استجابة لاقتراح المشرف عليه في قسم الدراسات الإسلامية. وقد صدر المجلّد الثاني، وهو الذي يهمنا هنا، عن مطبعة الكوثر سرائي مير في أعظم كره، في الهند عام 1980م. وقد تضمّن كلّ جزء فصلين من الفصول التي أشرنا إليها قبل. وهكذا جاء الحديث عن المحسّنات في الفصل الثالث من الجزء الثاني. ويتضمّن فصل المحسّنات هذا خمس مقالات هي:

المقالة الأولى:    في المحسّنات التي نُقلت عن الهندية إلى العربية.

المقالة الثانية:    في المحسنات التي استخرجها المؤلف.

المقالة الثالثة:    في نوع من مستخرجات الأمير خسرو الدهلوي (ت725هـ) وثمانية أنواع قديمة.

المقالة الرابعة:    في النوعين المختصّين بالعرب.

المقالة الخامسة: في القصيدة البديعية التي نظمها المؤلّف.

وستكون لنا وقفة إن شاء الله عند محتويات المقالات الثلاث الأولى؛ لأنها هي التي تمثَّل الإضافات الهندية إلى البلاغة العربية التي أشرنا إليها في عنوان هذه الورقة. لكنه قبل ذلك علينا أن نتحدّث عن قصة تأليفه هذا الجزء من الكتاب.

يحكي لنا المؤلّف في مقدمته للجزء الثاني من الكتاب حكاية تخصيصه الفصل الثالث من كتابه للمحسنات البديعية فيقول: «ثم إنّ قدماءهم (الهنود) الذين كانوا قبل زمان الإسلام استخرجوا من الكلام بدائع وافية، واستنبطوا من رشحات الأقلام صنائع شافية، منها مشتركة بين العرب وبينهم كالتورية وحسن التعليل وتجاهل العارف.. ومنها مختصّة بالعرب كاستخدام المضمر وحسن التخلّص والتاريخ على قاعدة الجمَّل وغيرها، ومنها مختصة بالهند. وأنا قصدت أن أنقل القسم الأخير عن الهندية إلى العربية، فرأيت بعضها لا يقبل النقل لخصوصيته بلسان الهند، وبعضها يقبل النقل، فنقلت عنها نبذة وجدتها فائقة، وألحقتُ بفنّ الأدب جملة رائعة»([25]).

وهكذا يبدو لنا جليّاً قصد المؤلف من الإتيان بالفصل الثالث، فصل محسنات الكلام، وهو أنّه أراد أن يبين فضل الهنود في علم من العلوم التي يُظنّ لأوّل وهلة أنّها عربيّة خالصة، كعلم البلاغة.

والحقيقة أنّ عنوان الكتاب «سبحة المرجان في آثار هندوستان»، يتضمّن أمرين: اسم الكتاب «سبحة المرجان»؛ وموضوع الكتاب، وقد أشار إليه قوله: في آثار هندوستان، ويريد بذلك مآثر الهنود في العلم والأدب.

وقد جاءت إشارة إلى اسم الكتاب في خاتمة الجزء الثاني إذ يقول المؤلف: «هذا ما رمتُ إيراده في هذه المجموعة وقصدتُ إيداعه في هذه المصنوعة. والصلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على البدر التَّمّ في سماء الجلالة والجزء الأخير من العلّة التامّة للرسالة... ما عُدّ التسابيح للرحمن بسبحة المرجان»([26]).

ب ـ الجزء البلاغي من الكتاب:

أما في شأن محتويات المقالات الثلاث الأولى من الفصل الثالث فيذكر المؤلّف أنّه اختار ثلاثة وعشرين نوعاً من الأنواع البديعية الهندية جعلها موضوع المقالة الأولى، وذلك إذ يقول: «ولمّا شمرتُ ذيل الجهد في هذه الميادين وعمدت إلى استخراج الأمثلة من المجاميع والدواوين سنحت لي نبذة من الأنواع وظفرتُ بأقراط / ثمينة للأسماع، فاخترت من الأنواع الهندية ثلاثة وعشرين وسميتها في العربية بأسماء مناسبة لمسمياتها، وهي: التنزيه، وتشبيه الشيء بنفسه، وتشبيه البرهان، والانتزاع، وتشبيه السلب، وتشبيه النفي، وتشبيه التقوية، وتشبيه الاستغناء، وتشبيه التمني، والتفضيل على التفضيل، وتفضيل التعبير، وبراعة الجواب، وجمع الخزانة، وتفريقها، وقلب الماهيّة، والاستبداد، والطغيان، والتسلط، والاعتساف، وموالاة العدوّ، والمخالطة، والتأميل، وإضمار النهي، والتنوع»([27]).

وأما المقالة الثانية من هذا الفصل فقد ضمّنها المؤلّف مستنبطاته هو من الأنواع البديعية، ويعرض فيها لسبعة وثلاثين نوعاً بديعيّا([28]).

وكانت المقالة الثالثة منزلا لنوع بديعيّ من مستخرجات الأمير خسرو الدهلوي، هو «أبو قلمون»، أضاف إليه المؤلّف ثمانية أنواع قديمة. وفي هذا يقول المؤلّف: «وأوردتُ نوعاً من مستخرجات الأمير خسرو الدهلوي، وهو أبو قلمون، وثمانية أنواع قديمات، وهي: التدارك، والتلميع، والتعمية، والتاريخ، والزبر، والبيّنات، ودائرة التاريخ، والتصغير، فصار المجموع تسعة وستين»([29]).

وعلى هذا، يكون في مقدور المتأمل القول إنّ الإضافات الهندية الأساسية إلى البلاغة العربية في كتاب سبحة المرجان هي تسعة وستون نوعاً بديعيّاً. لكنّ المؤلّف حرص على أن تكون عدّةُ المحسّنات البديعية في كتابه مئة نوع، فبيّن أنّه ينشأ من اعتبار الأضرب المتعدّدة لبعض الأنواع البديعية الهندية سبعة وعشرون نوعاً، وابتغاء بلوغ العدد المئةَ ضمّن المقالة الرابعة نوعين بديعيّين مختصّين بالعرب ونوعين مشتركين بين العرب والأهاند. يقول المؤلف:

«وإنّ اعتُبر الأضربُ يزيد سبعةٌ وعشرون نوعاً؛ لأن قلب الماهيّة والتصوير المعنوي والدعاء كلٌّ منها على أربعة أضرب، وتشبيه النفي والتنوع وتشبيه الاستخدام وتفضيل الاستخدام وأبا قلمون كلّ منها على ثلاثة أضرب، وتفضيل التعبير والتفاؤل والوفاق والتنزيل والإفحام وتشبيه الاستفادة وتشبيه الاحتراز وتشبيه الاجتهاد كلّ منها على ضربين. وذكرتُ نوعين من الأنواع المختصة بالعرب، وهما حُسْن التخلّص واستخدام المضمر، ونوعين مشتركين بين العرب والأهاند، وهما استخدام المظهر الذي هو صرف الخزانة والتورية؛ لوجوه تظهر في موضعها، فبلغ المجموع مئة نوع»([30]).

وابتغاء أن يكمل المؤلّف جهده البلاغي عقد المقالة الخامسة من الفصل الثالث لما دعاه «القصيدة البديعيّة». وقد جارى فيها أصحاب البديعيات العرب الذين أنشؤوا قصائد نظموا فيها المحسّنات البديعية. ويبدو أنه أراد بهذا الصنيع أن يجدد دولة البديع في القرن الذي عاش فيه، وهو القرن الثاني عشر. وهو بهذا يستوحي مؤدّى الحديث الشريف: «إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها دينها». وفي هذا يقول السيد غلام علي آزاد: «وقد عرضتُ على جناب الأدباء وساحة الكملاء ما أردت إيراده من المحسنات الكلامية والبدائع الأقلامية، ثم مشيت على آثار أصحاب البديعيات ونظمتُ قصيدة فائقة على الأزهار الرّبيعيات، وأخرجت من عمق البحر غرر الدّرر، وجددتُ البديع في المئة الثانية عشر (كذا). وأبياتُ قصيدتي مئة وواحد سالمة من تكرار القافية حافلة بالمطالب الوافية. وما التزمت فيها تسمية النوع؛ فإنها قاطعة لطريق الوصول إلى المعاني وسدُّ ذي القرنين بين العشاق والغواني»([31]).

ج ـ دوافع المؤلّف إلى التأليف في المحسّنات الكلامية العربيّة:

يخلص قارئ الجزء البلاغي من سبحة المرجان إلى نتيجة مفادها أنّ المؤلّف قصد من إيراد المقالات الخمس المؤلّفة للفصل الثالث من الكتاب إلى تعريب البديع الهندي وجَعْل مستنبطات الهنود في المحسّنات الكلاميّة أساساً لكشف كثير من أسرار البلاغة في الكلام العربي. يقول السيد غلام علي آزاد: «ولما قصدتُ تعريب البديع الهندي مزجتُ عَرْفَ الصندل بالأرَج الرَّندي، وطالعت الدواوين العربية، وتصفحتُ الكتب الأدبية، واشتغلتُ بها عدّة أشهر، وما تناولتُ إلا غرفة من سبعة أبحر؛ لانتفاء الفراغ وعدم مساعدة القلب والدماغ، وإلا فكان الاحتمال القوي أن يسنح أنواع أخر، ويُزاد على القلادة القصيرة دررٌ غُرر، وفي هذا القدر كفاية لمن له دراية»([32]).

وكثيراً ما يشير مؤلّف سبحة المرجان إلى أنه إنما استنبط نوعاً من الأنواع البديعية وأعطاه مصطلحاً خاصّاً به؛ لأنّه رأى المؤلفين البلاغيين العرب لم يعطوا هذا النوع حقّه الذي يستحقه ولم يجعلوه نوعاً قائماً بذاته، برغم أنّهم عرفوه وانتبهوا له. يقول مثلا في المقالة الثانية من الفصل الثالث في شأن فنّ التفاؤل: «وذكر أصحابُ البديعيات مبحث التفاؤل في براعة المطلع، لكن ما أفرده أحدٌ منهم ولا جعله نوعاً برأسه. وأنا نظمته في سلك الأنواع، وجعلتُه نغمةً مستقلة لإراحة الأسماع. وهو عبارة عن استنباط الخير من قول أو فعل. فمن أمثلة الأول ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه لما قدم المدينة نزل برجل من الأنصار فنادى الرجل بغلامه: يا سالم، يا يسار»، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلمتْ لنا الدارُ في يسر»([33]).

ويشبه هذا أيضاً ما قاله المؤلّف في شأن فنّ «التشبيك»([34])، وفن «المخالطة»([35]).

بل كثيراً ما يظهر المؤلّف دهشته واستغرابه من عدم جعل البلاغيين العرب محسّناً من المحسّنات نوعاً مستقلا، خاصّة عندما يكون أمرُ حسْنه ظاهراً واضحاً للعيان. وذلك جليّ في قوله عن النوع البديعيّ الذي سمّاه «المُزاح»:

«هو أن يُظهر المتكلّم في كلامه انبساطاً مع الغير من غير إيذاء له. وبه تميّز عن الهزء والسخرية. وهذا النوعُ معروف، والعجبُ أنّه ما جعله أحدٌ من أدباء العرب نوعاً برأسه، ولا أدخله في سلك الأنواع. وأحسن المزاح ما يكون خالياً من الفحش، إن تسمعه العذراء في خدرها لا تستح، كما قيل في الهجو. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمازح ولا يقول إلا حقا. من جملتها أنّه قالت له امرأة: يا رسول الله، ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فقال: يا أمّ فلان، إنّ الجنة لا تدخلها العجوز. فولّت تبكي. قال: أخبروها أنّها لا تدخلها وهي عجوز، إنّ الله يقول: (إنّا أنشأناهنّ إنشاء فجعلناهنّ أبكارا) أي عند دخولهن الجنة»([36]).

د ـ التفاعل الثقافي في ذهن مؤلّف سبحة المرجان:

كان الأدب والتأليف الأدبيّ ميداناً لتلاقي الفِكَر وتلاقح الأذهان منذ وقت مبكر في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. وربما كان التأليف البلاغيّ العربيّ من مجالي الثقافة القوية التي ظهر فيها هذا التلاقي والتلاقح على أشدّه، على اختلاف في الدرجة بين المؤلّفين ومؤلّفاتهم([37]).

ويحسّ قارئ الشطر البلاغي من سبحة المرجان أنّ مؤلّف الكتاب يقدّم نموذجاً قويّا للتفاعل الثقافيّ المعتمد على دراية بلغات مختلفة وطرائق تعبير متباينة وطرز فكر متنوعة، فالمؤلّف، كما أسلفنا، متمكّن من العربية والفارسية وبعض لغات الهند. ويبدو في مؤلّفه خبيراً متمرساً بالأساليب، وشاعراً كبيراً قادراً على نظم الأمثلة بالعربية للأنواع البديعية الهندية التي نقلها إلى العربية. وربّما يتجلّى شيء من آثار هذا التفاعل الثقافي في مثل قوله في شأن النوع المسمى «أبو قلمون» الذي هو من مخترعات الأمير خسرو الدهلوي:

واستخرجتُ لأبي قلمون أمثلةً من القرآن العظيم؛ لأنّه «لا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين». منها قوله تعالى: ﴿طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾. طوبى كحُسْنى زنةً ومعنى، وشجرة في الجنّة، والجنّة بالهندية، وقد تقدّم بيانها في التورية. وقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾، ضمير الفاعل لعاص بن وائل؛ أي يأتينا يوم القيامة منفرداً عن المال والأهل والعيال. ومعنى «فردا» بالفارسية: غدا. فالمعنى: يأتينا غداً أي يوم القيامة ويرى ما وعدناه من العذاب. وقوله تعالى: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾. النديّ بالعربية المجلسُ، وبالهندية النهر. ومعنى النهر صالح في الآية، وحاش أن يكون مرادا»([38]).

والحقيقة أنّ مؤلّف سبحة المرجان كان على دراية دقيقة بجهود البلاغيين العرب، بل في مستطاع المرء أن يقول إنّه أحصى أنفاسهم، ووقف على كل شاردة وواردة مما أتوا به، وحدّد كثيراً من نواحي القصور في جهودهم، ومن هنا لا يني المتأمّل يطالع في الشطر البلاغي من كتابه معالجات لنواحي القصور هذه، وكأن أمر إصلاح البلاغة العربية موكول إليه. وربّما عبّر عن هذا التفاعل بين البلاغتين الهندية والعربية قوله في شأن النوع البديعيّ الذي سمّاه «إضمار النهي»:

هو أن يكون مرادُ المتكلّم بالأمر نهياً بدلالة قرينة. هذا النوع عرّفه الأهاند بهذا التعريف. أقول: ذكر صاحب التوضيح استعمال الأمر في تسعة معان منها التهديد كقوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿َمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾. ولا يخفى أنّ في الآيتين نهياً في لباس الأمر أدخله الأهاند في أنواع البديع، وهو حرًى به، ولم يدخله أدباءُ العرب فيها. ومن أمثلته في الشعر قولي:

إن كنت تذهبُ قطعاً عن دويرتنا

فاقتلْ محبّاً يخافُ الهَجْرَ ثم سِر

« اقتلْ» و «سِرْ» نهيانِ في لباس الأمر بقرينة أنّ العاشق يطلب قتْلَ نفسه وذهاب المحبوب. وظاهر أنّ الأمرين ليسا مما يرضى به العاشق([39]).

هـ ـ قيمة المنجَز البلاغيّ الذي أتى به المؤلّف:

يأنس متأمّل الجزء البلاغيّ من سبحة المرجان أنّ المؤلّف بذل جهوداً كبيرة في نقل المحسنات الكلامية الهندية إلى العربية. وربّما تمثّل العنت الذي لقيه في ذلك على أشدّه في طلب الأمثلة البلاغية العربية للأنواع الهندية التي نقلها، وفي ذلك يقول: «واستخرجتُ الأمثلة من الآيات العظيمة والأحاديث الكريمة ودواوين الشعراء ومجاميع الأدباء، وأضفتُ إليها ما سمح به الخاطر الفاتر وترشّح به السّحابُ القاطر»([40]).

وبرغم ما يلاحظ من اغتباط المؤلّف بمستنبطاته ومستخرجاته في مواطن كثيرة من الجزء البلاغي في كتابه بدا كثير الميل إلى استصغار ما أتى به قياساً إلى ما أتى به من يسميهم العرب العرباء، ومن هنا نجده يقول: «وما جئت إلا ببضاعة مزجاة، ولا أتيت إلا بخرزات ملقاة، بيد أنّ القُسْط، وإن كان شيئاً يسيرا، ينفع من الأمراض المؤلمة كثيرا، والعُودَ، وإن كان كُسارةً من شجرة، يملأ المحافل من رائحة عطره»([41]).

على هذا النحو ظلّ مؤلّفُ سبحة المرجان في تأليفه البلاغيّ يرنو بعين قلبه إلى العرب العرباء، أهل بيت البلاغة، وأرباب نديّ الفصاحة، وقد تقدم بنا قوله: «وأرجو من العرب العرباء أن يستحسنوا مخترعات الأهاند، كما استحسنوا الأسياف الهندية بين الفراند([42])».

والواقع حقّاً أنّ ما أتى به السيّد غلام علي آزاد يضيف إلى المنجز البلاغي العربي أنواعاً من المحسّنات هو في أشدّ الحاجة إليها. وقد أسلفنا أنّ الرجل كان منشغلا في الجزء البلاغي من تأليفه بتعريب البديع الهندي؛ أي بإطلاع الدارسين العرب على مستنبطات الهنود قبله ومستنبطاته هو. ويتجلّى إحسانه فيما أتى به في قدرته على التقاط الأمثلة النثرية والشعرية العربية الممثّلة لما نقله عن الأهاند. وكان كثير التعويل في استمداد الأمثلة العربية على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربيّ. كما كان يعمد هو نفسه إلى نظم الأمثلة الشعرية العربية للأنواع البديعية التي يتحدّث عنها؛ ومن هذه الوجهة كثرت الأشعار التي نسبها إلى نفسه في الجزء البلاغيّ من سبحة المرجان كثرة بالغة.

وسنقدّم فيما يأتي بعض الأمثلة لما أسداه المؤلّف من خدمات جليلة إلى الدرس البلاغيّ العربيّ للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربيّ مقدّماً في تبصّراته صوراً شديدة الوضوح للتفاعل الثقافي العربيّ الهنديّ، والفارسيّ أحياناً:

يقول المؤلّف في شأن فنّ «التسوية» وهو من جملة مستنبطاته:

هو أن يحسب المتكلّم المتضادين في مرتبة واحدة لا يرجّح أحدهما على الآخر، كقوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾. وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قال الرجل: كيف أنصره ظالماً ؟ ـ قال صلّى الله عليه وسلّم: «تمنعه عن الظلم»]. وقول كثيرّ :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ

لدينا، ولا مقليةٌ إن تقلّتِ

يقول: أنا راض بما تفعلين بي أسأتِ أو أحسنتِ، لا ألومك على الإساءة ولا أقليك ولا أبغضك إن تقليني. والتفت في قوله «تقلت إلى الغيبة احترازاً عن مخاطبتها بنسبة التقلّي إليها»([43]).

وفي هذا المثال تظهر لنا قدرة المؤلّف على التقاطِ الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي وجَمْعِها في بابة واحدة لتكون أمثلة للنوع البديعي الذي استنبطه.

ويشبه المثالَ السابق ما قاله المؤلّف في الفصل الثالث في المقالة الأولى التي يتحدّث فيها عن المحسّنات التي نقلت عن الهندية إلى العربية، وذلك إذ يتحدث عن النوع البديعي المسمّى«التنزيه»:

هذا النوع استخرجه بعض الأهاند في مقابلة التشبيه، وهو أن يبرئ المتكلم شيئاً عن أن يماثله شيء آخر، كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى/11)، وقوله تعالى: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ & الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ (الفجر/7، 8) أو قول حسّان في مدح النبيّ صلَّى الله عليه وسلّم:

وأحسنُ منك لم تر قطّ عيني

وأحسنُ منك لم تلدِ النساءُ

خُلقتَ مبرّأ من كلّ عيبٍ

كأنك قد خُلقتَ كما تشاءُ

المنفيّ ههنا رؤية أصل الحسْنِ، لا الزيادة. وقد يُراد باسم التفضيل أصلُ الفعل كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ (الروم /27). . وقولي:

يا أيّهـا الملكُ الرفيعُ جنابُه

لم يُلفَ في كلّ الورى لك ثانِ

ظلٌّ لربّ العرشِ أنتَ وظاهرٌ

أن لا يكون لواحدٍ ظـلانِ([44])

ولا مواربة في القول إنّ صنيع المؤلّف في تطبيق البلاغة الهندية على الأمثلة العربية، يضع أبصار الدّارسين العرب على كثير من آيات الحسن في الكلام العربيّ مما لم يفطن إليه الدارسون العرب، أو فطنوا إلى أجزاء منه ولم يفردوه بعنوان خاصّ. ولعلّ شيئاً من هذا يتجلّى في حديثه عن محسَّن يسمّيه «التفضيل على التفضيل»، إذ يقول:

هو أن يفضَّل المتكلّم شيئاً على شيءٍ، ثم يفضَّل على المفضَّل شيئاً آخر وهلمّ جرّا، كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سعد بن عبادة: «إنّ سعداً لغيورٌ وأنا أغيرُ من سعدٍ والله أغيرُ مني..» وقلتُ:

البدرُ أسنى من كواكب في الدجى

وذُكاءُ أشرف منه في الإشراق

وسعادُ أزيدُ من ذكاءَ إضاءةً

أحسِنْ بقدرة حضرةِ الخلاق([45])

وكثيراً ما تأتي قيمة ما يأتي به المؤلّف في شأن المحسنات البلاغية من جمعه بين الأمثلة العربية والأمثلة الهندية للنوع البديعيّ الهندي الذي نقله. ومن ذلك مثلا ما يبدو في حديثه عن نوع يسمّيه تشبيه التمني، إذ نجده يقول:

هو أن يتمنّى المشبّه به أن يحصل له كمالُ المشبه، كقول المعرّي في الخيل:

وكلّ ذؤابةٍ في رأسِ خَــوْدٍ

تمنّى أن تكون له شِكـالا

وقول القاضي عبد المقتدر الدهلويّ:

له جمالٌ إذا ما الشمسُ قد نظرت

إليه قالت: ألا يا ليتَ ذلك لي

.. وقولي:

السّروُ يرجو أن يميس كقدّه

ويفوز فوق الأرضِ بالخطواتِ

والورْدُ أمّل أن يكون كخدَّه

فأتى ببسط الكـفّ للدعواتِ([46])

ولعلّ المنجَز البلاغي للسيّد غلام علي آزاد البلغرامي يتجلّى أكثر في تحليله المفصَّل الدقيق لجماليات المحسّنات الكلاميّة ممّا يضاعف خبرة دارسي البلاغة بالخصائص الفنية لكلّ نوع بديعيّ ويسمح بقدر أكبر من الانفعال الجماليّ بهذه المحسّنات. يقول مثلا في المقالة الأولى من الفصل الثالث من كتابه تحت عنوان «التورية»:

«هذا النوعُ سلطانُ المحسّناتِ ولواءُ الحمدِ بين الرايات، وهو المتصف بغرّ المزايا والموجودُ في جميع ألسنة البرايا. والتوريةُ مصدرُ ورّيتُ الحديثَ، إذا أخفيتَه وأظهرتَ غيره، مأخوذٌ من وراء الإنسان؛ فإذا قال: ورّيتُه، فكأنّه جعله وراءه، بحيث لا يظهر. وهو في الاصطلاح أن يُذكر لفظ له معنيان: قريبٌ لظهور دلالة اللفظ عليه، وبعيد لخفاء دلالة اللفظ عليه. فيقصد المتكلّم المعنى البعيد ويورّي عنه بالقريب، ويوهم السامع في أول الوهلة أنّه يريد القريب. ولهذا سمّيت إيهاماً أيضاً. ولا يلزم في التورية أن يكون للفظ معنيان، بل يجوز أن يكون له معانٍ متعدّدة. وذكرُ المعنيين في التعريف اكتفاءٌ بالأقلّ. كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزالُ أهلُ الغَرْب ظاهرين على الحق». قيل: هم أهلُ الشام؛ لأنّه غربُ الحجاز، وهو المعنى القريب لكثرة استعمال أهل الغرب في سكان الجانب الغربيّ. والغَرْبُ: شجرة حجازية. قيل: ومنه الحديث. وقيل: الغَرْبُ الحِدّة والشوكة. والمرادُ بهم أهلُ الحجاز. وقيل: الغَرْبُ الدّلو، والمراد بهم العرب؛ لأنهم يسقون بها. والمعاني الثلاثة هي المعاني البعيدة. واستخراجُ التورية من هذا الحديث من قلم المؤلف»([47]).

وربّما كان في طليعة ما يمكن أن يقدّره دارسُ البلاغة العربية في جملة صنيع مؤلّف سبحة المرجان تلك الأشعارُ الرائعة التي نظمها للتمثيل للأنواع البديعية الهندية التي نقلها إلى العربية. فقد أتى هذا الألمعيّ المشبع بالثقافة الهندية والفارسية بنماذج من النظم العربيّ الرّائق الذي لا يمتلك متأمّله إلا الإقرار بأنّه أمام عبقرية شعرية عظيمة، عبقرية لا عيب فيها إلا أنها أطلّت على الدنيا في مكان غير مكانها، وحالُها في هذا شبيهةٌ بحال الشاعر الأندلسيّ الكبير ابن حزم الظاهري الذي شكا من أنّ ظهوره في الأندلس وليس في المشرق سببٌ لعدم تقديره حق قدره، فقال:

أنا الشمسُ في جوّ العلوم منيرةٌ

ولكنّ عيبي أن مطلعي الغربُ

ولعلّ من كمال النّصَفة أن نثبت بعض الأمثلة لأشعاره التي نظمها إسهاما منه في التمثيل للأنواع البديعية التي نقلها:

يقول مثلا في «التنوع» الذي يعني عنده أن تكون لشيء واحد ماهيّات متعددة حسب تعدّد الجهات المتنوعة، كتعدّد الاعتقاد وتعدّد المكان وتعدّد الزمان:

هذا الإمـامُ الفرْدُ في أقرانِهِ

أضحى لأصناف الأنام مآبا

يُلفيه أربابُ السُّرى بدر الدجى

ويراه أهل الاعتفاءِ سحابا

وفي التمثيل للفنّ البديعي نفسه أيضاً يقول :

الحبُّ طوراً ضِرامٌ وهو آونةً

ماءٌ، فذلك أورانا وأروانا([48])

وفي التمثيل لفنّ «تشبيه الاستفادة»، الذي يعني عنده «أن يستفيد المشبه به من المشبّه بعض أوصافه أو بالعكس»، يقول:

لله ساقيةٌ تسقي صواحبَهــا

خمراً عقيقيّةً في أكؤسِ الذهبِ

تديرهــا وغيومُ الجوّ باكيةٌ

والكأسُ باسمة عن لؤلؤ الحبَبِ

مدامة يهتدي السّاري بشعلتها

ويقبسُ المنتشي نوراً من الأدبِ

أعارت الشمسَ شيئاً من لوامعها

سَقْياً لعاصرها من كوكب العنب

والحـقّ أنّ ثنايا كلّ غانيةٍ

منها تحصّل ما فيها من الشَّنَبِ([49])

ومن تمثيله لفن سمّاه «أبا قلمون»، وذكر أنّه من مستخرجات الأمير خسرو الدهلوي (ت 725هـ )، قوله:

نضتْ هنديـةٌ يوماً علينا

من الأجفان سيف الافتتانِ

أغثْ يا ربَّنا غـوث البرايا

لقـد قتلَ المتيّمَ هِندُواني

الهِندواني بالكسر: بالعربية السيف المنسوب إلى الهنود، وبالهندية: امرأة من الهنود الذين هم عبَدَةُ الأصنام([50]).

والحقيقة أنه نظم كثيراً جدّا من الأمثلة الشعرية للأنواع البديعية التي عرض لها. واتّسم قريضه فيها بالدّماثة والرقة والتدفّق، حتى كأنّه يغرف من بحر.

وإذا كان المقام الذي نحن فيه استلزم أن نشير إشارة سريعة إلى الأمثلة الشعرية التي نظمها هو نفسه تمثيلا للمحسّنات الكلامية، فإنّ الحديث عن مُنجَزه البلاغيّ لا يأذن لنا بأن نهمل الإشارة إلى اختياراته الشعرية الرائعة من دواوين الشعر العربيّ. فقد مثّل بطائفة كبيرة من الأشعار لشعراء عرب يمثّلون الأعصر المختلفة والبيئات المتعدّدة، ويضيق بنا المقام لو رحنا نحصي الشعراء العرب الذين مثّل بأشعارهم. ولكننا نستطيع القول إنّ مؤلّف سبحة المرجان أديب كبير وشاعر مبرّز وقارئ ممتاز لديوان الشعر العربي، وقد أضاف إلى ذلك ملَكة نقدية قويّة وذائقة أدبية حسّاسة أسعفته في التقاط درر الأشعار من روائع الآثار في أدوار الشعر العربي المختلفة.

3 ـ القول الفصل والرأي الأخير:

بعد هذا التطواف في ميدان الإضافات البلاغية الهندية التي اجتهد مؤلّف سبحة المرجان في أن يعرّفها للعرب، ويأتيَ لها بالأمثلة من القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف والشعر العربيّ، ومن شعره هو، في مقدور المتأمّل أن يخلص إلى ما يأتي:

1 ـ أنّ مؤلّف سبحة المرجان مؤلّف بلاغيّ هنديّ الأرومة، ولكنه على قدر كبير من الخبرة البلاغية في العربية والفارسية والهندية، وهو إلى ذلك شاعر متمكّن من زمام القريض العربي، يعطفه إلى حيث يشاء ويتصرّف في مقادته لتقديم أمثلة شعرية عربية رائعة للأنواع البديعية التي نقلها من الهندية إلى العربية.

2 ـ أنّ جمهرة الأطايب البديعية التي قدّمها المؤلّف على مائدة البلاغة العربية، تنتمي إلى ما يعرف في المصطلح البلاغيّ العربيّ بالمحسنات البديعية المعنوية التي أوصلها بعض أصحاب البديعيات العربية إلى أكثر من مئة ضرب.

3 ـ أنّ الجزء البلاغيّ من كتاب سبحة المرجان يمثَّل درجة عالية للتفاعل الثقافيّ والحضاريّ بين الأهاند والعرب والفرس وبين الثقافات الهندية والعربيّة والفارسية؛ ذلك أنّ السيد غلام علي آزاد مؤلّف وناظم بالفارسية أيضاً.

4 ـ أنّ الجزء البلاغيّ من سبحة المرجان يقدّم لنا نموذجاً عالياً للذهنيات التي أنضحها طول تأمّل القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي الجميل الذي يمثل المؤلّف أحد أعلامه البارزين، ليس في ديار الهند المسلمة فحسب، بل في تاريخ الشعر العربيّ كلّه.

5ـ أنّ الجزء البلاغيّ من كتاب سبحة المرجان قمين بأن يُنشر نشرة محقّقة مُدققة، توضع بين أيدي دارسي البلاغة العربية وطلاب علم البلاغة؛ ابتغاء اكتشاف المزيد من أمثلة الإعجاز الأدبيّ في كتاب الله سبحانه، والكثير من صور التفوق في البيان العربي شعره ونثره.

6 ـ أن صنيع السيد غلام علي آزاد البلغرامي في الجزء البلاغي من كتابه يشدّ على أيدي أولئك الطامحين إلى اكتشاف جماليات جديدة في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف، وكذلك في النتاج الأدبي العربي قديمه وحديثه. والله، سبحانه، هو الهادي إلى سواء السبيل.

مصادر البحث ومراجعه:

1 ـ إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثامنة، بيروت، د.ت.

2 ـ أعلام المؤلّفين بالعربية في البلاد الهندية، جمال الدين الفاروقي وصاحباه

، مخطوط معدّ للنشر.

3 ـ البيان والتبيين، عمرو بن بحر الجاحظ ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي في القاهرة، الطبعة الخامسة، 1405هـ = 1985م.

4 ـ دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة 1984م.

5 ـ سبحة المرجان في آثار هندوستان، السيد غلام علي آزاد البلغرامي، تحقيق د. محمد فضل الرحمن الندوي السيواني، مطبعة الكوثر، الطبعة الأولى، سراي مير، أعظم كره (ولاية أوتار برادش )، الهند، 1980م.

6 ـ شرح عقود الجمان في المعاني والبيان للسيوطي، عبد الرحمن بن عيسى بن مرشد العمريّ المرشدي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الثانية 1374هـ = 1955م.

7 ـ مجلّة البعث الإسلاميّ التي تصدرها مؤسسة الصحافة والنشر، لكناؤ – الهند، العدد الخامس، المجلّد 52، محرّم وصفر 1428هـ = فبراير ومارس 2007م.

8 ـ مجلّة ثقافة الهند، التي يصدرها المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، المجلد 57، العدد 2، 2006م.


([1])      البيان والتبيين، الجاحظ، ج1، ص 92.

([2])      البيان والتبيين، ج1، ص 137.

([3])      انظر مثلا بعض ما جاء في ترجمة الصحيفة الهندية من مثل: «أوّلُ البلاغة اجتماعُ آلة البلاغة. وذلك أن يكون الخطيب رابطَ الجأش، ساكنَ الجوارح، قليل اللحظ، متخيَّر اللفظ، لا يكلَّم سَيّدَ الأمَة بكلام الأمَة ولا الملوك بكلام السّوقة. ..». البيان والتبيين، ج1، ص 92 ـ 93.

([4])      يذكر الإمام عبد القاهر الجرجاني، مؤسَّس علوم البلاغة، أنّ أهل زمانه كانوا يذكرون مفردات الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، من دون تحديد دقيق لمعانيها؛ ومن هنا جاء عملُه في دلائل الإعجاز ليحدّد على نحو دقيق المراد بهذه المصطلحات. انظر في هذا الشأن: دلائل الإعجاز، ص 34.

([5])      البيان والتبيين، ج1، ص 95. والدّمالق: المستدير، الأملس. وانتباه إبراهيم بن السّنديّ إلى ما قاله الرشيد للعُماني يشير إلى بصره بتأثير هيئة منشد الشعر أو الخطيب في أثناء خطبته في الاستجابة الجمالية لشعره أو خطبته؛ وهو معنى متداول فيما كتب حول الخطابة والبلاغة.

([6])      هو محمد بن محمد بن عبد الجليل بن عبد الملك، ينتهي نسبه إلى سالم بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما. يقول عنه ياقوت: كان من نوادر الزمان وعجائبه، وأفراد الدهر وغرائبه، أفضل زمانه في النظم والنثر، وأعلم الناس بدقائق كلام العرب، وأسرار النحو والأدب، طار في الآفاق صيته وسار في الأقاليم ذكره، وكان ينشئ في حالة واحدة بيتاً بالعربية من بحر وبيتاً بالفارسية من بحر آخر ويمليهما معاً. وله من التصانيف: حدائق السحر في دقائق الشعر، باللغة الفارسية. كان مولده في بلخ، ومات في خوارزم عام ثلاثة وسبعين وخمسمائة. انظر: ياقوت: معجم الأدباء، الجزء 19، ص 29.

([7])      ذكر بعض علماء البلاغة مثلا أن قول القائل:

لو لم تكن نيّةُ الجوزاءِ خدمتَه

لما رأيت عليها عقْدَ منتطِقِ

الذي يمثَّل به للمحسَّن البديعي المعنوي المسمّى «حسن التعليل»، هو ترجمة بيتٍ فارسيّ لفظُه:

كر نبودى قصد جوزا خدمتش

كس نديدي برميان او كمر

وقد ذهب بعضُهم إلى أنّ الذي ترجَمه هو الخطيب القزويني مؤلّف الإيضاح. انظر في هذا الشأن: عقود الجمان في المعاني والبيان للسيوطي بشرح العلامة عبد الرّحمن بن عيسى بن مرشد العمريّ، المعروف بالمرشدي، الجزء الثاني، ص 123.

([8])      هو الإمام عبد الحميد الفراهي من أهالي «فريها» (Fariha)، إحدى قرى مدينة أعظم كره. نال العلوم الابتدائية والفارسية على الشيخ مهدي حسن، كما أخذ العلوم العربية الابتدائية والمتوسطة على الشيخ شبلي النعماني. . من آثاره القيمة «تفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان» و«إمعان في أقسام القرآن» و «الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح» و«مفردات القرآن»، و«جمهرة البلاغة» و«ديوانه العربي». و«جمهرة البلاغة» من الكتب القليلة النظير، ذكر فيه الإمام الفراهي أصول البلاغة ومستواها في ضوء القرآن والسنّة وكلام العرب الأقحاح. وانتقد فيه أرسطو ونظريته في المحاكاة، وحدّد كثيراً من خاصيات القوّة في اللغة العربية. انظر في هذا الشأن البحث الذي يحمل العنوان: «الدائرة الحميدية ومساهمتها في تطوير العلوم والآداب»، للسيد أورنك زيب الأعظمي في مجلة ثقافة الهند، التي يصدرها المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، المجلد 57، العدد 2، 2006م، ص1 ـ 59.

([9])      اعتمدنا في هذه المعلومات على بحث كتبه الأستاذ الدكتور محمد اجتباء الندوي بعنوان: «مولانا غلام علي آزاد البلغرامي كاتباًً وشاعراًً». انظر: مجلّة البعث الإسلامي التي تصدر في الهند، العدد الخامس، المجلد 52، محرّم وصفر 1428هـ، فبراير ومارس 2007م الصفحات 77 – 85. وكذلك على السّيرة التي كتبها للمؤلّف ثلاثة أساتذة هنود، ضمن كتاب معدّ للنشر يحمل عنوان: أعلامُ المؤلّفين بالعربية في البلاد الهندية. والمؤلفون هم: أ.د. جمال الدين الفاروقي، و أ.عبد الرحمن محمد، وأ. عبد الرحمن حسن.

([10])    انظر: مجلّة البعث الإسلاميّ، العدد 5، المجلد 52، محرّم وصفر 1428هـ/ فبراير ومارس 2007م، ص 80.

([11])    السابق، ص 80 نقلا عن نتائج الأفكار، ص 59.

([12])    السابق، ص 80 – 81.

([13])    نفسه، ص81.

([14])    إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص 91.

([15])    سبحة المرجان، ج2، ص 12 ـ 13.

([16])    نفسه، ص 285.

([17])    نفسه، ص 38. والفِرِنْد هو السيف وجوهره ووشْيه.

([18])    نفسه، ص 26 – 27.

([19])    نفسه، ص 239 – 240.

([20])    نفسه، ص 41.

([21])    نفسه، ص 24 نقلاً عن كشف الظنون 1/22.

([22])    نفسه، ص 62.

([23])    نفسه، ص 62 ـ 63.

([24])    نفسه، ص س.

([25])    نفسه، ص 38.

([26])    نفسه، ص 537.

([27])    نفسه، ص 39.

([28])    نفسه، ص 39.

([29])    نفسه، ص 39.

([30])    نفسه، ص 40 ـ 41.

([31])    نفسه، ص 284.

([32])    نفسه، ص 132.

([33])    نفسه، ص 133 عن الخصائص الكبرى 2/164.

([34])    نفسه، ص 180.

([35])    نفسه، ص 120.

([36])    نفسه، ص 186.

([37])    انظر مثلا قول الجاحظ: خبّرني أبو الزبير كاتبُ محمد بن حسّان، وحدّثني محمد ابن أبان – ولا أدري كاتب من كان – قالا: «قيل للفارسيّ: ما البلاغة ؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليونانيّ: ما البلاغة ؟ ـ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للروميّ: ما البلاغة ؟ ـ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهنديّ: ما= =البلاغة ؟ ـ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال بعض أهل الهند: جماعُ البلاغة البصرُ بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة..»، البيان والتبيين، ج1، ص 88.

([38])    سبحة المرجان، ج2، ص 240.

([39])    نفسه، ص 128.

([40])    نفسه، ص 40.

([41])    نفسه، ص 40. والقُسْط: عُودٌ هنديّ وعربيّ يتبخّر به. والكُسارة: القطعة.

([42])    نفسه، ص 38.

([43])    نفسه، ص 194 – 195.

([44])    نفسه، ص 42 – 44.

([45])    نفسه، ص 67 – 68. وذُكاء: الشمس.

([46])    نفسه، ص 66 – 67. والشَّكالُ هو الحبل تشدّ به قوائم الدّابة.

([47])    نفسه، ص 86 – 87.

([48])    نفسه، ص 129 – 130. والضّرام ما اشتعل من الحطب. وأورانا: أشعلنا.

([49])    نفسه، ص 223 – 224. والكوكب ما طال من النبات. والشَّنب: ماء ورقّة وبَرْد وعذوبة في الأسنان، أو نقط بيض فيها.

([50])    نفسه، ص 243.

إرسال تعليق

أحدث أقدم