لبست ثوب العيد، وكأنه ثوب العرس لولا رأيته الثوب نفسه كانوا ألبسوه الخروف قبل العيد! .. خروفا حبسته زوجتي أربعين يوما في الحوش لليوم الموعود تحت الأشجار، والكل يعلّم بذلك اليوم الموعود، بما فيهم أطفالي الذين ألبسوا الخروف ثوبي على أنه حجّي خروف، والحجّي بينهم آخر من يعلم.!
"لماذا يا زوجتي الحبس المؤبّد ثم الإعدام.!؟" .. أليست العقوبات مهما كانت قاسية صارمة ومتضاعفة، تنتهي على عقوبة واحدة متداخلة: "إما الحبس المؤبد أو الإعدام .. فلماذا الحبس والإعدام يا سيدتي..؟"
وتردّ الحكومة قائلة: "لا يا بومحمد، ما نشتريه قبل العيد بأربعين يوم من الخرفان بألف وألفين يتضاعف سعره بالآلآف قبل العيد بأربعين ساعة.!" .. ثم تقول "لاتشيل همّ يبو محمد، هذا الخروف لم يُنهكه الجوع والعطش منذ دخل بيتك، بل عيّشوه أولادك دلعا ودلالا، البعض كاد يطعموه همبرغر وبيتزا وكنتاكي ويسقوه ميرندا وكوكا كولا، والبعض الآخر ألبسوه غترتك وعقالك ونظارتك هنا" .. فقاطعتها غاضبا: (وايضا ألبسوه هنا ثوبي العيد .. يا امّ محمد .!)
لم تبال أم محمد بكلامي بل رددت نفس الكلمات: "نعم وألبسناه ثوب العيد ايضا هنا" ثم واصلت: (حجّي خروف لم يكن هنا في زنزانة مفردة كما تتخيل يبومحمد، بل كان بنعمة مصباح علاء الدين هنا، كلُّ الطعام كان له متاح هنا، والمأوى له مباح هنا، وأشجار الغاف والنبق له بالرياح هنا .. رأيته يُسحق بسوق الغنم بين أبقار أفريقية وعصى الرعاة الآسيويين الغلاظ، فوضعت له خدامتان بالمكناس والمفتاح هنا، كان لايشبع من حشائش العلف المجفّف هناك، ولم تقرُص معدته عقارب الجوع هنا، كل ذلك لأنه حجّي خروف الموعود بالعرفة، والموعود بالإضحى، فالموعود بالجنة.
الخروف سمع كل الحوار ولم يرد علينا باكثر من (ماع ماع) .. إذن طوبى لخروف رأى عيوب الناس وأغضى عنها، وطوبى لخرفان رأت عيوب نفسها فقوّمتها بتسليم الأعناق لخناجر الجزارين قبل الآجال.
والبيت يخلو الآن من روح الخروف وماعاته، وجدرانه مزدانٌ بجلده ورأسه ومصرانه، فوقفت بثوب العيد أترسّم الطريق الى هؤلاء الذين تاهوا في بيداء هذه الحياة، قلت (الحياة) قاصدا أينما توجد الحياة على كوكب الأرض، لا أعني بلدا معينا، ولاعرقا ولا دينا ومذهبا .. عربيا أعجميا، أومسلما ومشركا، دعونا نلبس ثوب عيد أهل الأرض، نذهب به إلى أى إنسان قضى العقاب المؤبد وخرج للمجتمع برصيد ما تبقى له من أيام عمره، فوجد نفسه امام سجن آخر أشدّ ظلمة وسجّانين أشدّ غلاظا!
الأبواب توصد في وجهه أينما إتجه، لكونه يحمل شهادة خريج السجون، لم يجد بابا كتب عليه (مرحبا لمن عاد كمن لاذنب له)، غمزاتُ عيون محتقرة له من كل صوب وبهمسات: (انت يا أنت.!)، ضاقت به الحياة خارج السجن فعاد إلى باب السجن ثانيا، إلا أن البوّاب إعتذر منه قائلا (لا أستطيع أن افتح لك الباب، الاّ ان تعود للمجتمع وترتكب جريمة نكراء تؤهلك دخول العنبر من جديد.!)
نمشي نسلم على خريجي السجون، قد نلقى بينهم بمن كان قد دخلها كارها واحاط بمن يكرههم وهم له كارهون، فلم يكن له في السجون صديق ولانصير، ولن يكن له في المجتمع صديق ولانصير .. في الداخل لم يقبلوه لأنه اقل حجما من شيطانهم، وفي الخارج لن يقبلوه لأنه أقل حقا لغفرانهم.!
اما آن لنا معايشته إنسانا إن كان دفن شيطانه؟ .. ثم، ليس بالضروة ان يكون كل سجين مذنب وكل طليق ملاك، كم من مستنشقي الهواء الطلق مجرمون على حساب أبرياء في أعماق السجون.! وكم من عباقرة تألّقت عبقرياتهم من خلف أسوار السجون، وليس نيلسون مانديلا آخرهم إن لم يكن أولهم جواهر لال نهرو، الذي راسل إبنته (لمحات من تاريخ العالم) من خلف الأسلاك فصنع منها أنديرا غاندي، ناهيك عن المهاتما غاندي السجين الطليق تحت العصىّ والركلات، الذي أفرج عن سجينة بحجم (الهند)، ونقلها من طابور أفقر دولة في العالم إلى عُظمى اليوم.!
لبستُ ثوب العيد ولم أمشى هذه المرة إلى مزركشي الحُلىّ والحُلل، أريد أن اذهب اليوم الى المنبوذين البؤساء المأيوسين الحفاة العراة ممن لايملك قوت نهاره ولابساط ليله، ممن لا يأكل يومان متتاليان توفيرا لليوم الثالث، ممن يوزع الجوع والطعام بين أطفاله المتناوبين خمسة أيام ليبلع هو لقمة واحدة في باليوم السادس او يلفظ أنفاسه جوعا في اليوم السابع، ممن ينام على الرصيف قرب روائح الشواء، يحلم أكل منها وشبع ونام، وعقارب الجوع تقرص معدته كلما إستيقظ وشمّ الشواء.
في هذا العيد وجدت نفسي تائها بين جلد الخروف المدبوغة بالكركوم، ودشداشتي المعطّرة بماء الورد، لم ارى الدنيا صغيرة هذه المرة، وجدتها كبيرة جدا، ولا أريدها الدنيا تحبني دائما، بل اريدها تكرهني احيانا لأشعر بالحب الحزين من دنيا الآخرين، واتذوّق شيئا من طعم الألم اللّذيذ، كما تذوّق خروفنا الحجّي بقبول السكّين على رقبته، والساطور على ترقوته وعلى عموده الفقري وعظامه نخاعه ليذهب الى الجنة.!
فلنخلع ثوبنا ونُبلسه هذه المرة من لم يلبسه قبل اليوم، نراقصه به صباح العيد معطّرا، ندُسّ له في جيبه شمسا تهديه صيف الشتاء وربيع الخريف، ونبني له قصرا ينام فيه ليلة العيد وإن لم يدخله مدى الحياة من بعد العيد.!
- بقلم: أحمد إبراهيم (كاتب إماراتي)
- البريد الإلكتروني: ui@eim.ae
شكرا لهذا المقال وهذه الأريحيه وكل عام والأمة العربية والإسلامية بخير إن شاء الله .. تقبلوا مني خالص التحية والتقدير وأتمنى الاستمرار معكم لكم خالص التحية من بلادي فلسطين
ردحذفولعي اقتبس" نمشي نسلم على خريجي السجون، قد نلقى بينهم بمن كان قد دخلها كارها واحاط بمن يكرههم وهم له كارهون، فلم يكن له في السجون صديق ولانصير، ولن يكن له في المجتمع صديق ولانصير .. في الداخل لم يقبلوه لأنه اقل حجما من شيطانهم، وفي الخارج لن يقبلوه لأنه أقل حقا لغفرانهم.!
ردحذفشكراااااااااااااااا بلا حدود لهذه الروعه والإبداع
محبتكم/ نادرة الوجود
مشكور استاذنا على هذا المقال الذي يبعث السرور :) تحياتي وتقديري واحتراماتي
ردحذفههههههههههه مقال توووووووووووووووحفه تسلم الايادي
ردحذفجميل ياسيدي وكل عام وانت واحبتك بالف خير ان شاء الله تعالى بارك الله فيكم وسددد على طريق الخير خطاكم اخواني الاعزاء
ردحذف