العجوز الذي قيل عنه الكثير، وأنه كان يتحكم عن بُعد بقبضته الحديدية إلى ما لاتغيب عنه الشمس، قيل عنه أخيرا أنه كان يهرول في شوارع لندن وراء المشاغبين، والشمس تغزو صلعته الحمراء وهو يجري بخرطوم المياه خلف لُهب النيران لأعمال شغب إشتعلت في شمال لندن وشرق مانجستر وإمتدت الى برغنهام وليفربول، فبات يُخشى من إمتدادها الى دول أخرى مجاورة .. الشمس الجديدة مشاغبةٌ جدا على العجوز، كادت تُفقده الرجل الأبيض العملاق بريق رُعبه الفولاذي المتوارث، وتُدفن هيبته المزروعة أمام الأقزام من السود والزنوج منذ عقود وقرون بين الأقاليم والقارات.
إكتشفت بريطانيا المنشغلة بغيرها عبر التاريخ، أنها تنقصها الخبرة والعُدّة عندما إنشغلت بنفسها..! بعد اليوم الخامس من التصدي لحرائق المشاغبات التي إندلعت من حى توتنهام، وشعلاتها ملتهبة شمالا وجنوبا، والشرطة البريطانية المنتشرة ب16 الف في لندن، معتقلة 1500 شخص، إصطدمت الشرطة بتصريح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون بإستخدام خراطيم المياه والرصاص المطاطي.
الصدمة لم تأت من القرار، بل من فقدان أدوات تطبيق القرار، أكتشفوا ان في بريطانيا العُظمى كلها لاتوجد خراطيم المياه، لانها كانت تعتبر عظمتها في عدم إستخدامها على مواطنيها، وإن إستخدمتها إلى ما لاتغيب عنها الشمس من مواطني آسيا الى أفريقيا .. وهى ذاتها (العظمى) التي أرسلت طائرات الدمار الشامل البريطاني فوق العراق لتكشف عن الأسلحة الدمار الشامل العراقي، وهى ذاتها التي لم تكشف بعدها عن خراطيم المياه من الداخل، ويقال انها كانت في إنتظارأن تصلها من الخارج خلال 24 ساعة.!
البريطانيون متفقون بأغلبية 60% على إستخدام الرصاص المطاطي، وفيهم نسبة ملموسة تؤيد الرصاص الحى، ولكنهم متفقون بالإجماع ان أسباب الشغب تعود إلى إثارة إستياء مواطنين منبوذين مهشمين.
لن نقبل ما يحصل للمواطنين البريطانيين بكل فئاتهم وطبقاتهم وأطيافهم وأعراقهم، ملثمي الوجوه هم طيور الليل في شوارع طوال خمسة ايام، يسطون على المحلات، يقتلون دهسا، يحطمون يحرقون ويلاحقون الشرطة، إنهم بلطجية ولصوص، هوياتهم السرقة والنهب والنشل، ولأول مرة في دولة ليبرالية قوية إقتصاديا ومصنفة خامس أفضل إقتصاد في العالم، بات يُخشى فيها على رصيدك بالبنك وخاتمك بالخنصر، وساعتك في المعطف، ومن شبان صغار تحت الخامسة عشرة من أعمارهم، قد يقتحموك بالسكين في البطن او يهشموا رأسك بالساطور.
لم يعد البريطانيون البرجوازيون وكبار السن في القطارات والمطارات يخشون الملتحين كالمعتاد او الصائمين منهم بالذات هذه الأيام، على أنهم ملتحون وملثمون مصاصوا الدماء دخلوا القطار بالإرهاب الإسلامي، ومتعطشون لدماء اليهود والنصارى، وانما عيونهم هذه الأيام في القطارات والمتروات والشوارع على صغار السن من وُصفوا بمواطنين مهمشين منبوذين معدومين، ومن أين جاء كل هذا الغضب، ومن زرعه في هؤلاء المهمشين.!
البريطاني العملاق الأبيض الطويل الذي كان يبتعد عنك في المترو وأنت تنتظر القطار جنبه، لمجرد ان لونك داكن وان كنت بريطانيا، قد يقف جنبك اليوم ويركب معك القطار .. لآنك يا البريطاني الداكن القصير، وإن كنت قبلت لنفسك يوما هذا التعالي العرقي من أربابك البريطاني الأصيل، معتبرا نفسك مواطن من الدرجة الثانية، لكن يبدو أن إبنك المراهق الذي كان بجنبك لم يتقبّل الوضع، فلم يتقدم إلى الطويل الابيض المجاور بإنحناءة الإحترام للكبير ضمن عاداته الشرقية أو تقاليده المتداولة بين شعوب العالم الثالث، بل إتجه هذا المراهق إلى من هو أصغر منه بشموخ، بدل أن يتجه لمن هو أكبر منه بركوع.
بريطانيا اليوم بأعلى معدل لعدد المراهقين في السجون، بل ومعدلات سجن المراهقين تضاعفت ثلاث مرات منذ التسعينيات، وفي بريطانيا الفقر فيها مضاعف مرتين للمهمشين مقابل المواطن من الدرجة الثانية (إن صح التعبير) في اليابان والسويد والنرويج، وفي ضاحية توتنهام بلندن التي اندلعت منها الشرارة الأولى بعد مقتل شاب بريطاني أسود، يوجد 50% من سكانها عند خط الفقر، وواحد بين كل خمسة بلا عمل.!
انا اختلف مع ريتشارد ويلكنسون من "مؤسسة المساواة" القائل بحكم عمله (أن اعمال الشغب هذا لايمكن تجنبها في مجتمع يتجه فيه الغنيّ الأكثر غنا، والفقير الأكثر فقرا) .. أختلف معه لأنه إعترف ولم يتعرّف.! إعترف بواقع ولم يتعرّف على واقع آخر، هو المساواة والعدل الإجتماعي بين الإنسان والإنسان، خاصة ونحن نمارس طقوسه في شهر الصوم هذه الأيام، التي تجعل من الإنسان الثرىّ صائما يشعر بجوع وعطش جاره الفقير، ويستلذّ بطعم الجوع والعطش، فيساهم الجياع في شبعاته.
والنجاج مضمون أمام البلاط البريطاني، إذا أستبدل إسطوانته القضائية القديمة بأن (العظمى بريئة من كل شي، وان هؤلاء مجرمون ولصوص وعصابات)، إلى أسطوانة جديدة "تقاضي بجعل المهمشين البريطانيين بريطانيين، وتُحوّل الجشعين منهم الى صائمين لا جائعين، فيتحول الجائعون بأنفسهم الى صائمين .. وهكذا قد تشرق في بريطانيا شمس عيد تقول (كلنا بريطانيون).
-
البريد الإلكتروني: ui@eim.ae