أنسب مكان للمشي هو كورنيش النيل، و أنسب ساعة هي قبل الغروب بقليل، و أنسب واحد لتلك المهام هو أي واحد غيري، لكني كنت هناك وقتها أسعى للترويح بعض الشيء عن روحي القلقة، فمنذ قليل اكتشفت أن لدي مشكلة عويصة.. المهم.. على إيقاع هادئ كئيب سوداي سارت خطواتي تجر إحداها الأخرى، و قد نويت السير إلى حد التعب و النعاس، و لما وجدت نفسي قريباً من النيل، قررت بلوغ نهاية الكورنيش، و كان الغروب ساعتها يحاول التهام النور، و كان الجو مزين بضوء رباني كسى الدنيا جمالاً لا يوجد إلا هنا و الآن، و كانت أعمدة النور تلقي نورها الناعس في شيء من الشح و الاقتصاد، و تبعثر الصيادون في نقاط متفرقة كل يبحث عن سمكة ساذجة بعض الشيء، و في تلك الساعة المفعمة بالتأمل و الشاعرية قطع أحدهم طريقي، و كان في نفس حجمي و طولي، و مشكلته الوحيدة أنه كان بلا أية ملامح، أما الغريب بالنسبة لي أنه كان ظلي، و طبعاً أي واحد حزين شارد يمشي على كورنيش النيل لا بد أن يقف خاصة إذا استوقفه ظله، و أنا بطبيعتي مسالم جداً، لكني لست مبادراً على الإطلاق، لذلك وقفت و انتظرت أن يطلب مني حافظة نقودي مثلاً لكن لا أعتقد أن يصدر هذا الفعل الغبي عن ظلي، خاصة أن مالي هو ماله! المهم.. بعد الوهلة الأولى قال:
- لو عندك مشكلة أنا قادر على مساعدتك في حلها!
بصراحة حالتي كانت أصعب من أن أرد عليه، ثم أن حواره شرطي و ليس استفهامي، و نبرة صوته كانت تشبه نبرة ممثلي الدعايا و الإعلان، لذلك تفاديته و أكملت سيري، لكنه التقط حجراً من على الأرض و ألقى به بكل ما أوتي من قوى في النيل، و كان هذا ما أزعج السمك و أقلقه و دفعه للهرب بعيداً عن مصدر القلق، و بالتالي نظر الصيادون كلهم إلى المصدر الذي جاء منه القلق، و بعدها استقبلت كماً لا بأس من المسبات، بصراحة سمعتها من قبل لكن ليس بتلك الغزارة.. المهم أني رفعت يدي معتذراً في حرج و الحمد لله عادوا كما كانوا في فترة وجيزة، و هكذا اضطررت إلى أن أتناقش أنا و ظلي في مكان عام، و هكذا قلت له مبتسماً بصوت خافت:
- نعم!
فقال لي و كله بهجة و حبور:
- فقط اشرح لي و لن تندم! المهم أن ننتهي و نروح!
- هذه هي المشكلة! همك هو أن تساعد نفسك لا أن تساعدني!
- تبادل منفعة يا أخي! فقط جربني!
- طيب.. المشكلة يا سيدي...
- أهم شيء هو المنهج المتبع في حل المشاكل... لا بد و أن يكون منهج عقلاني بحت! لأن العشوائية هي السبب في معظم...
- مشكلتي أن ليس هنالك من يست...
- طبعاً! لأنك منذ البداية أخذت تبحث عن أسباب المشكلة و ليس عن تعريف واضح لها! لا تشغل نفسك أبداً بما وراء الأسباب! فقط ركز على كيفية التعامل معها على ضوء الظروف الحالية! لست في حاجة لتفسير و تأويل أسباب المشكلة! فقط عليك..
- أنا أبحث عمن يستم...
- مشكلة الإنسان أنه دائماً يطمع في هذا البعيد الغير متاح الممنوع! لماذا تحب بنت السلطان أفقر صعاليك الحي! و يقع الأمير في غرام خادمة في قصره! و بعدها يفكرون في الزواج! و لمه!
- مشكلتي ليست...
- حتى كل إحصاءيات العالم تقول أن نسبة النساء للرجال هي عدة سيدات للرجل! يعني المسألة منتهية! لكن المسألة تماماً كهذا النيل! السمك كثير جداً! لكن من الذي لديه أدوات الصيد و يجيده؟ من الذي لديه الخبرة و يعلم متى تغمز فيسحبها و متى يصبر!
- أنا أصلاً متزوج و عندي أولاد لكني...
- أرأيت؟ كان قرارك منذ البداية لكنك...
و هنا تدخل ظل عامود نور كان يستمع للحكاية، و كان تدخله عنيف بعض الشيء لأنه هوى من هذا الارتفاع بمصباحه على رأس ظلي، و ما كان منه سوى أن سقط مغشياً عليه، و بعدها قال ظل عامود النور:
- احك لي انا.. على الأقل تسليني قليلاً.
- هذه هي المشكلة! أنت تريد أنت تسلي نفسك لا أن تساعدني!
- تبادل منفعة يا أخي! فقط جربني!
- طيب.. المشكلة يا سيدي..
- المشكلة أن الشمس غربت... تصبح على خير!
و لما اختفى ظل عامود النور و ظلي الملقى على الأرض أكملت سيري بهدوء أكثر من الأول، لكني أحببت أن أعبر عما يساورني بشكل حضاري، و لذلك التقطت حجراً من على الأرض و ألقيته بكل ما أوتيت من قوى في النيل و ركضت و المسبات نفسها بنفس الغزارة تلاحقني من كل صوب.
- سلامة عبد السلام
13/4/2011