التمثال

تمثال

وحيدا يقف في الساحة..لم يبرحها رغم تعاقب الفصول. يحمل في يده دفتر أشعاره،يهم أن ينطق الا ان العابرين لم ينتبهوا اليه مرة واحدة..يبتلع الغصة بأسى ، يتكور جسمه النحيل الواهن،تتوقف شفتاه الشاحبتان عن الارتعاش ، يغرق في الصمت، وتضج الساحة بهدير السيارات في النهار وثرثرات المتسكعين والسكارى في الليل.‏

سنوات عدة على هذا الحال..‏

منذ أن احتفلوا بقص الشريط ورفع الستار الذي يكلله،بعد أن وضع الفنان لمساته الأخيرة.‏

في ذلك اليوم غصت الساحة بالناس.. رجال ونساء،طلاب وطالبات، فتيات صغيرات في ثياب مزركشة يحملن الأعلام وباقات الزهور.‏

لقد صفقوا طويلا،حتى كلتّ أيديهم واحمرّت أكفهم.لم يصفقوا له بقدر ما صفقوا لحامل المقص ورفاقه الذين تكرموا بقص الشريط ورفع الستار... ثم رموه بنظرات عجلى وانطلقوا بسياراتهم السوداء،يتسابقون في الوصول الى فندق من الدرجة الأولى،تتوسط صالته الكبيرة مائدة عامرة..احتفاء باقامة نصب تذكاري يعلوه تمثال علم من أعلام الفكر والأدب والترجمة.‏

انطفأت شمس الخريف منذ ساعات،وزحف الظلام الى المدينة التي ترقد مهملة على ضفة النهر..لم تقو مصابيح الكهرباء القليلة الباقية على هتك ستار الظلام.. البرد يلسع الجلد كابر حادة،ثم يتغلغل في النسج والخلايا ويسكن في المفاصل والأحشاء،وقد خلت الساحة تماما من الناس،وظل التمثال وحيدا كما كان.‏

قبل منتصف الليل،وعلى حين غرة،حدث ما لم يكن متوقعا.. أمر غير عادي هز البلدة التي كانت غارقة في السكون..دبت حركة غريبة..دراجات نارية وعادية،شاحنات ثلاثية العجلات،أفراد وجماعات من مختلف المهن والأعمار.. بعضهم جاء راكضا،آخرون ارتدوا ثيابهم على عجل فبدوا بصورة غريبة مضحكة. أحدهم كان ينتعل فردتي حذاء مختلفتين. وكل يحاول أن يصل قبل الآخر.. وغايتهم واحدة..التمثال.‏

تحلقوا حوله.. حاولوا الصعود اليه،وطأت أقدامهم أحواض الزهور،تدافعوا بالأيدي والمناكب.. لمعت سكاكين وخناجر،طارت أحذية وتمزقت ثياب،تبادلوا الشتائم...‏

سلّطوا على التمثال أضواء المصابيح.. أشعلوا أعواد الثقاب.‏

اهتز التمثال،انتصبت قامته، ارتعشت شقتاه الرقيقتان، ثبّت نظارته السميكة فوق عينيه..ابتسم للجمهور الذي تذكره فجأة،رفع يده اليسرى التي قبضت على دفتر أشعاره ورسمت يده اليمنى اشارة في الهواء معلنة بدء القصيدة، لكن لغو القوم لم ينقطع.‏

تتالت الصرخات والاستنكارات والشتائم،نشبت المشاجرات، أصيب أكثر من واحد اصابات بالغة، وقع أحدهم أرضا فوطأته أقدام المتزاحمين.‏

أعلن أحدهم انه فقد حذاءه وتساءل كيف يعود الى البيت حافيا...وصرخ آخر:لقد أضعت محفظة نقودي،وقال ثالث بلهجة سوقية،وقد كان طالبا فاشلا لا يحب الشعر والشعراء:العمى.. شغلتنا في حياتك وها أنت تشغلنا بعد مماتك.‏

لملم التمثال أوراقه .. ضمها الى صدره، ابتلع غصة مرّة، تساءل:أي أمر جلل جاء بهم؟‏

عندما مات الشاعر الانسان كلن المشيعون قلة، لم يتجاوزوا عشرين أو ثلاثين. واليوم ودونما مناسبة كما يتهيأ للشاعر التمثال، لم يبق في البلد كبير أو صغير ، متعلم أو أمي، جزّار أو ماسح أحذية، موظف أو ، أو خادم في مطعم ، أو نادل في مقهى .. راكب دراجه أو عامل سائق شاحنة الا وقد حضر.‏

مقهى الأمراء... ذلك الجحر المتداعي الذي يلتقي فيه مربو الحمام والفاشلون والعاطلون عن العمل..لم يبق فيه زبون واحد.تركوا طيورهم في أكياسها المثقبة واندفعوا كخيول جامحة، يتسابقون في الوصول الى الهدف،لايأبون لمن تطأوه أقدامهم أو تصدمه دراجاتهم وآلياتهم.‏

بعد دقائق كان بعضهم يغادر الساحة مسرعاً كما جاء اليها.‏

أحدهم يسأل:هل عددتها؟ كم هي؟‏

لكنه لايسمع جوابا أو قد يسمع اجابات مضللة،فمن يعرف الجواب لايبوح به بل يستأثر به،ويغادر مسرعا علّه يفوز بالجائزة.‏

قال أحدهم:هناك زر مقطوع.‏

سأل آخر:أين؟‏

قال ثالث لزميله:دعنا منهم.. لقد عرفت عددها،هيا بنا قبل أن يسبقنا الآخرون.‏

انطلق بدراجته النارية كالسهم، قفز رفيقه خلفه فارتفعت عجلتها الأمامية،وقطعت عدة أمتار على عجلة واحدة،قبل أن تستعيد توازنها ويغيّبها الظلام.‏

فرغت الساحة من الناس تماما.. انطلقوا الى بيوتهم واحتضنوا أجهزة الهاتف،يديرون أقراصها أو يضغطون أزرارها بنزق.. يتسابقون في الاتصال بمعد البرنامج التلفزيوني الذي كان قد وجّه الى الجمهور سؤالا حول عدد الأزرار في تمثال الشاعر،ورصد جائزة مالية كبيرة لصاحب أول جواب صحيح ياتيه عبر الهاتف.‏

عندما اكتشف الشاعر التمثال سر هذا الحدث،شعر بالأسى،ابتلع غصة مرّة.. تمنى على المذيع لو أنه سألهم عن قصائده ودواوينه.. عن ترجماته، عن بيت من الشعر حفظوه له.. عن تاريخ مولده أو موته. الا ان شيئا من هذا لم يحصل.‏

شحب لونه وتقوست قامته.. ضغط بيده اليسرى على أوراقه وطواها.أما يده اليمنى فقد كانت أصابعها مضمومة الا واحدا،ظل منتصبا يعلن عن مولد قصيدة لم ينظمها في حياته.‏

  • الكاتب: ابراهيم خريط

إرسال تعليق

أحدث أقدم