1- الـجثـّة:
تساقطت أشعة الشمس ذرات ملوّنة، وغمرت المكان. ظهرت هرّة سوداء، لحق بها كلبان رماديان ينفضان عن جسديهما ما علق بهما. رفرف عصفور منطلقاً من شجرة قصيرة الجذع وطار مبتعداً.
تجمعت الأشعّة فوق جثّة، أضاءت أزرار السترة. تفتّحت ألوان الثياب. التمع الأسود وتماهى باللون الأحمر والأصفر ممتدّاً كأفعى. عند القدمين استقرّت ربطة أرغفة من الخبز، وحزمة من البصل الأخضر، ومجموعة من حبيبات البندورة والخيار. قرب الرأس ارتمت إحدى اليدين بينما اليد الأخرى تقبض على مقبض حقيبة جلدية عتيقة. على خطوات من الجثّة، ضاق طريق ترابي، على جانبيه بيوت مختلفة الأشكال والألوان والنوافذ.
ارتفعت الشمس قليلاً. تخللت الوجه. القدمين. الثياب. الحقيبة الجلدية وكومة الخضار. وتابعت سيرها في السماء. تعالى صوت أحد الباعة. أشرعت نوافذ. فتح الطريق صدره لرجال ونساء وأطفال. الوجوه كابية والعيون نصف مغمضة، والأيدي تقبض على أشياء وأشياء. فاحت في المكان روائح الخبز الساخن والحليب. الشمس تتابع سيرها، والوجوه تنضح بالاهتمام والتعب.
ألقى رجل- يحمل علبة بيضاء وعدداً من أرغفة الخبز- نظرات عابرة باتجاه الجثّة، ثم غضّ بصره وتابع سيره. فعلت امرأة - تحمل سلّة وهي تميل تحت ثقلها- ما فعله الرجل. ظهر الذعر في نظراتها ونصل لونها، لكنّها تمالكت نفسها وحوّلت وجهها إلى الجانب الآخر متابعة سيرها.
وقف طفلان على مقربة من الجثّة. قال الأكبر:
- إنّه.. نائم.
قال الثاني:
- قد يكون.. ميتاً.
تبادلا النظرات. فتاة صغيرة اقتربت منهما. قالت:
- إنّه... رجل.
- بالتأكيد هو ليس امرأة.. قال الكبير.
قال الصبي الصغير:
- أنا لا أعرفه.
قال الكبير:
- هو ليس من حيّنا.
قالت الفتاة:
- ما الذي جاء به إلى هنا؟.
أجاب الكبير وهو يأخذ بيد الصغير هامّاً بالمسير:
- قدماه.
ابتعد الأطفال- عيونهم لا تودّ أن تغادر مكان الجثّة- وابتلعهم أحد الأزقّة.
دنت الهرة السوداء من الرجل الملقى على الأرض. تحسست البصل والبندورة والخيار. تريثت عند أرغفة الخبز. أخذت رغيفاً ثم ولّت هاربة.
تدافع الكلبان الرماديان وأحاطا بالجثّة. تشمما الرأس، الثياب، القدمين. الحقيبة الجلدية والمواد المبعثرة. ألقيا نظرات كسلى وغادرا المكان يتبع أحدهما الآخر، وكانت الشمس تتابع صعودها في الفضاء.
امتلأ الطريق بالناس: مخلوقات بمختلف الألبسة والأزياء. عربات. دراجات. سيارات تطلق دخاناً أسود وتثير الغبار، والشمس تنفث أشعتها وتنثرها في كلّ الأرجاء.
تململت الجثة. التفت الكلبان الرماديان وتحفزّت الهرّة للوثوب وظلّ الشارع على ما هو عليه. انتصب الرجل واقفاً. نفض ما علق بثيابه من أوشاب. جمع حاجاته وأرسل نظراته في رحلة وسار.
راحت الشمس تلتصق بوجهه وعينيه الحزينتين، وتتخلل ثيابه وما تحمل يداه، وكان يردد:
حمداً لله على كلّ حال..
2- الـزحـام:
على الرصيف رجل كبير وطفل وزحام شديد وشمس من نار. توقّف الطفل متعباً وعيناه تسبقان أنفاسه. دنا الرجل من الصبي وربت على كتفه. قال له:
- لماذا تسرع يا بني؟
ارتعشت أجفان الفتى ولامست عيناه نظرات الرجل الحانية:
- أنا.. أبحث عن أبي
تطايرت عيون الاثنين وحلّقت فوق الوجوه والثياب والتضاريس. كيف يمكن رؤية إبرة في جبل من القش أو مجرى ماء متدفق؟.
هكذا فكر الرجل وتمنّى أن يملك لهفة الصبي وحماسته.
3- ذاك الــوهـج:
(( أستغفر الله العظيم))
يخفق قلب الرجل، وتشعّ المرئيات من حوله. شيء ما بعمر الثواني وأكبر من الزمن. أرقّ من الأزهار وأقوى من الأعاصير، يعود إلى ذاكرته. يتجمّع في صدره وينبض فرحاً ينتشر في أعضائه. يعيد إليه ذكريات الألوان الزاهية، والخصل الناعمة كالحرير، والماضي والنظرات المتعثرة والخفقات الأولى..
إنّه الحبّ، هدهد قلب العجوز فتنفّس الأفق، وراحت أغنيات الصبا تبرعم فوق شفتيه. ((لاشيء ينتهي. ثمة شيء واحد تقصمه النهاية هو الزمن الخاوي. الأيام الشاحبة. أما الزمن الحافل بالأحلام، والأغنيات والأحاسيس الثرية، فهو لا ينتهي. يظلّ شاباً دافئاً غنياً بالحياة)).
ابتسم لأفكاره. أحسّ بحبّ لملامحه الناحلة. لخطواته التي ما عادت تتحدّى الصخور والعوائق: (( لا.. لا تموت الأحاسيس بتأثير الزمن)) كان الوجه الآخر يبتسم. رأى حبّاً قديماً ما يزال مشرقاً نضراً والمرأة التي تنتسب إلى عالمه تبتسم. تقاربا. ابتعدت الفصول والأيام الشاحبة والزحام، ثم سارا معاً. لا شيء تغيّر أبداً، لا شيء.. حتى الخوف من الآخرين ما زال موجوداً. شيء واحد يدركان أنّ الزمن لم يتركه كما كان، وهو أنّ الآخرين لا يمكن أن ينتبهوا إلى ما يحدث، وأنّ الوجهين القديمين، ما زالا يعيشان ذلك الوهج الذي يبثّه الحبّ في الأعماق على الرغم من الزمن. سألته:
- كيف حالك".
تصبّب عرقاً وتلعْثم. أحسّ أنّه يعود القهقرى إلى زمن بعيد. إلى عشرين. ثلاثين سنة مضت وربّما أكثر. ودّ لو يقول لها: إنني أشعر بالوحدة والفراغ والليالي طويلة طويلة لكنّه أجاب:
- لابأس.
كانا.. يبحثان عن إحساس بالاطمئنان لا أكثر، وهما مازالا يعيشان رغم الزحام والزمن والشمس الحارقة.
تبادلا النظرات بحنان. ابتسما كما في الماضي، ثم افترقا وضاعا.. في الزحام..
- محسن يوسف