يوم متميز لا يمكن أن أنسى أحداثه المثيرة... كنت في الثانية الابتدائية... لا أعرف ماذا تعني كلمة (ملك)... وفور دخول المدرس الفصل في بداية اليوم الدراسي قال لنا إن الملك سعود – رحمه الله – قد حضر للبلدة – القصب، الواقعة في الوشم جنوب شقراء – وخيّم في جنوبها، وإنكم (طلبة الفصل) ستذهبون للسلام عليه بعد عصر اليوم مع الأهالي، وسيعطي كل واحد منكم ريال فضة، وغترة، وثوباً جديداً.
كانت نقاشاتنا في المدرسة ذلك اليوم عن الملك سعود... وعن ريال الفضة والغترة، والثوب الجديد، وكان فرحي يزداد ساعة بعد ساعة، وعندما انتهى اليوم الدراسي كان فرحي قد بلغ أوجه. كنت أريد أن أحلّق. ولذلك عدت لبيتنا بطريقة القفز.. قفزتان باليمين، وقفزتان بالشمال.. وناديت أمي بصوتٍ مرتفع حالما دخلت المنزل. وبشّرتها بالخير، وابتهجت لابتهاجي، وقلت لها سأشتري بريال الفضة لحماً وحذاء جديداً. وسأشتري لك ثوباً وعـباءة وقدر مـاء جديداً، وكانت تبتسم بابتهاج بالـغ وهي تقول: وأبـوك..؟؟ قلت وسأشتري لأبي حذاء وقهوة، فتحول ابتسام أمي إلى ضحك وهي تردد.. قهوة..!! قهوة..!! ثم سألت.. وليـه قهوة...؟؟ قلت: علشانه يحب القهوة.. وأحن ما عندنـا قهـوة.. وأبيه إلى جا من السفر يحصّل عندنا قهوة.. ثم سألتـها تروحين معي العصر..؟؟ قالت لا.. فشعـرت بارتبـاك شديد، وقلت: وشلون أروح، فقالت: أنت رجاّل، تروح مع الرجاجيل. فشعرت بالاطمئنان والراحة، وقلت: إيه أبروح معهم.
مرّ الوقت بطيئاً.. هاه جا العصر..؟؟ كل دقيقة أسألها هذا السؤال، وهي تقول: لا.. بعد شوي.. وعندما قالت في آخر مرة.. هالحين يبي يذِّن.. لبست شماغ أبي الكبير بدون طاقية، وخرجت بلا حذاء، وكان الملك سعود قد خيّم بجوار البلدة من الجنوب، في مكان اسمه (برج الحويش) وبيتنا كان في الزاوية الغربية الجنوبية من البلدة، أي قريب من المخيّم.
اتجهت جنوباً نحو (برج الحويش) ورأيت المخيّم فشعرت بالزهو والفرح البالغ، وشعرت مرة أخرى بالرغبة في التحليق، ولذلك عدت للقفز.. قفزتين.. قفزتين.. وعندما أوشكت على الوصول للمخيّم خرج منه رجل طويل القامة، أسمر اللون، يلبس ثوباً أبيض، وغترة بيضاء، وعليه محازم سوداء اللون تحيط بخصره وتصعد لكتفيه بخطين متقاطعين، وسألني عمّا أريد، فقلت له: هل أنت الملك سعود..؟؟ فضحك وقال: لا، فقلت: وين الملك سعود..؟؟ فقال: موجود، لكن وش تبي بالملك سعود..؟! قلت: أسلم عليه علشان يعطيني ريال فضة وثوباً وغترة، فزاد ضحكه وقال: بعد العصر يا ولدي. رح وتعال إلى جو أهل الديرة. تّونا مبكرين. قلت طيب. ورجعت إلى البلدة.
في طريق عودتي، رأيت الخدّة على يدي الشمال (سور المزرعة غير العالي) ورأيت بها ظلاً، فقلت لنفسي لماذا أرجع.. سأنتظر هنا في ظل الخدّة ، وإذا جاء الأهالي سبقتهم. وذهبت للظل، وجلست فيه، أنظر للبلدة حتى أرى الأهالي عندما يقبلون، والهواجس الكثيرة، والآمال، والمشاريع التي سأبنيها بريال الفضة تسرح، وتمرح في ذهني.
بعد وقت قليل سمعت صوتاً. كان صوت أمي... يا عبدالله.. يا عبدالله.. واستيقظت.. كنت فزعاً.. لا أعرف ماذا حصل.. كان قد حل الظلام.. وكنت في حالة ارتباك ذهني.. وكان المخيم أمامي.. لا أراه، ولكن أرى بعض الضوء الخافت يخرج منه.. فقلت لأمي وأنا فزع مضطرب: وين أهل الديرة..؟ ما جو..؟ قالت: جو وراحوا. فزاد فزعي وقلت: وشلون..؟ قالت يوم تأخرت عليّ سألت بعضهم عنك، قالوا ما ندري، وقال واحد إنه شاف (بزِرّ) تحت الخدّة نايم وهم راجعين.. ثم قالت هاه..؟؟ وين الريال والغترة والثوب..؟؟ ما خذتهم..؟؟ فأدركت كل شيء.. أدركت أني نمت.. وجاء الأهالي وأخذوا ثيابهم وغترهم وريالاتهم وأنا نائم فشعرت بغبن شديد.. وصرخت مجيباً أمي.. ماخذت شيء.. جيت قبلهم وجلست تحت الخدّة انتظرهم ونمت... ثم بكيت.. قلت لأمي: تعالي نروح للمخيم. قالت: لا.. متأخرين وأنا أمك.. يمكن ناموا.. بكرة إن شاء الله تجي المخيم وتاخذ حقك.. فرجعت مع أمي للمنزل.. وكان لدي بعض الأمل.. سأخرج غداً وأطلب ثوبي وغترتي وريالي.
عندما أيقظتني أمي في الصباح لأذهب للمدرسة قلت: ما نيب رايح. قالت: وش بلاك..؟! قلت: وشلون أروح وأنا ماخذت حقي..؟؟ يبون يعايروني في المدرسة. قالت ما عليك منهم. رح وادرس، وبعد العصر رح وسلّم على الملك سعود ويبي يعطيك حقك.
وذهبت للمدرسة مكسور الخاطر، ووجدت أن قصتي قد أصبحت على كل لسان.. ما تدرون..؟؟ مسيكين ولد الفوزان نام تحت الخدّة وما خذ شي.. وخرجت من المدرسة أشعر بقهر شديد.. وفور حلول العصر خرجت للمخيم، ولم أر له أثراً، وحاولت أن أتمسك بالأمل، فاتجهت إلى مكانه، وحين وصلت رأيت الآثار، وتلفّت يميناً وشمالاً كأني أبحث عن المخيم تحت الأحجار.. وتفجرت الحقيقة المرةّ.. جلست على الأرض ووضعت رأسي على ساعدي الأيمـن وانخرطت في بكاء مرير.
بقلم: عبدالله ناصر الفوزان
جريدة الوطن يوم الأربعاء 6 محرم 1431 ـ 23 ديسمبر 2009 العدد 3372 ـ السنة العاشرة
كانت نقاشاتنا في المدرسة ذلك اليوم عن الملك سعود... وعن ريال الفضة والغترة، والثوب الجديد، وكان فرحي يزداد ساعة بعد ساعة، وعندما انتهى اليوم الدراسي كان فرحي قد بلغ أوجه. كنت أريد أن أحلّق. ولذلك عدت لبيتنا بطريقة القفز.. قفزتان باليمين، وقفزتان بالشمال.. وناديت أمي بصوتٍ مرتفع حالما دخلت المنزل. وبشّرتها بالخير، وابتهجت لابتهاجي، وقلت لها سأشتري بريال الفضة لحماً وحذاء جديداً. وسأشتري لك ثوباً وعـباءة وقدر مـاء جديداً، وكانت تبتسم بابتهاج بالـغ وهي تقول: وأبـوك..؟؟ قلت وسأشتري لأبي حذاء وقهوة، فتحول ابتسام أمي إلى ضحك وهي تردد.. قهوة..!! قهوة..!! ثم سألت.. وليـه قهوة...؟؟ قلت: علشانه يحب القهوة.. وأحن ما عندنـا قهـوة.. وأبيه إلى جا من السفر يحصّل عندنا قهوة.. ثم سألتـها تروحين معي العصر..؟؟ قالت لا.. فشعـرت بارتبـاك شديد، وقلت: وشلون أروح، فقالت: أنت رجاّل، تروح مع الرجاجيل. فشعرت بالاطمئنان والراحة، وقلت: إيه أبروح معهم.
مرّ الوقت بطيئاً.. هاه جا العصر..؟؟ كل دقيقة أسألها هذا السؤال، وهي تقول: لا.. بعد شوي.. وعندما قالت في آخر مرة.. هالحين يبي يذِّن.. لبست شماغ أبي الكبير بدون طاقية، وخرجت بلا حذاء، وكان الملك سعود قد خيّم بجوار البلدة من الجنوب، في مكان اسمه (برج الحويش) وبيتنا كان في الزاوية الغربية الجنوبية من البلدة، أي قريب من المخيّم.
اتجهت جنوباً نحو (برج الحويش) ورأيت المخيّم فشعرت بالزهو والفرح البالغ، وشعرت مرة أخرى بالرغبة في التحليق، ولذلك عدت للقفز.. قفزتين.. قفزتين.. وعندما أوشكت على الوصول للمخيّم خرج منه رجل طويل القامة، أسمر اللون، يلبس ثوباً أبيض، وغترة بيضاء، وعليه محازم سوداء اللون تحيط بخصره وتصعد لكتفيه بخطين متقاطعين، وسألني عمّا أريد، فقلت له: هل أنت الملك سعود..؟؟ فضحك وقال: لا، فقلت: وين الملك سعود..؟؟ فقال: موجود، لكن وش تبي بالملك سعود..؟! قلت: أسلم عليه علشان يعطيني ريال فضة وثوباً وغترة، فزاد ضحكه وقال: بعد العصر يا ولدي. رح وتعال إلى جو أهل الديرة. تّونا مبكرين. قلت طيب. ورجعت إلى البلدة.
في طريق عودتي، رأيت الخدّة على يدي الشمال (سور المزرعة غير العالي) ورأيت بها ظلاً، فقلت لنفسي لماذا أرجع.. سأنتظر هنا في ظل الخدّة ، وإذا جاء الأهالي سبقتهم. وذهبت للظل، وجلست فيه، أنظر للبلدة حتى أرى الأهالي عندما يقبلون، والهواجس الكثيرة، والآمال، والمشاريع التي سأبنيها بريال الفضة تسرح، وتمرح في ذهني.
بعد وقت قليل سمعت صوتاً. كان صوت أمي... يا عبدالله.. يا عبدالله.. واستيقظت.. كنت فزعاً.. لا أعرف ماذا حصل.. كان قد حل الظلام.. وكنت في حالة ارتباك ذهني.. وكان المخيم أمامي.. لا أراه، ولكن أرى بعض الضوء الخافت يخرج منه.. فقلت لأمي وأنا فزع مضطرب: وين أهل الديرة..؟ ما جو..؟ قالت: جو وراحوا. فزاد فزعي وقلت: وشلون..؟ قالت يوم تأخرت عليّ سألت بعضهم عنك، قالوا ما ندري، وقال واحد إنه شاف (بزِرّ) تحت الخدّة نايم وهم راجعين.. ثم قالت هاه..؟؟ وين الريال والغترة والثوب..؟؟ ما خذتهم..؟؟ فأدركت كل شيء.. أدركت أني نمت.. وجاء الأهالي وأخذوا ثيابهم وغترهم وريالاتهم وأنا نائم فشعرت بغبن شديد.. وصرخت مجيباً أمي.. ماخذت شيء.. جيت قبلهم وجلست تحت الخدّة انتظرهم ونمت... ثم بكيت.. قلت لأمي: تعالي نروح للمخيم. قالت: لا.. متأخرين وأنا أمك.. يمكن ناموا.. بكرة إن شاء الله تجي المخيم وتاخذ حقك.. فرجعت مع أمي للمنزل.. وكان لدي بعض الأمل.. سأخرج غداً وأطلب ثوبي وغترتي وريالي.
عندما أيقظتني أمي في الصباح لأذهب للمدرسة قلت: ما نيب رايح. قالت: وش بلاك..؟! قلت: وشلون أروح وأنا ماخذت حقي..؟؟ يبون يعايروني في المدرسة. قالت ما عليك منهم. رح وادرس، وبعد العصر رح وسلّم على الملك سعود ويبي يعطيك حقك.
وذهبت للمدرسة مكسور الخاطر، ووجدت أن قصتي قد أصبحت على كل لسان.. ما تدرون..؟؟ مسيكين ولد الفوزان نام تحت الخدّة وما خذ شي.. وخرجت من المدرسة أشعر بقهر شديد.. وفور حلول العصر خرجت للمخيم، ولم أر له أثراً، وحاولت أن أتمسك بالأمل، فاتجهت إلى مكانه، وحين وصلت رأيت الآثار، وتلفّت يميناً وشمالاً كأني أبحث عن المخيم تحت الأحجار.. وتفجرت الحقيقة المرةّ.. جلست على الأرض ووضعت رأسي على ساعدي الأيمـن وانخرطت في بكاء مرير.
بقلم: عبدالله ناصر الفوزان
جريدة الوطن يوم الأربعاء 6 محرم 1431 ـ 23 ديسمبر 2009 العدد 3372 ـ السنة العاشرة
القسم:
مقالات