أنه السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني ، نسبه يمتد إلي الثائر الأعظم الإمام الحسين "رضي الله عنه و أرضاه"، مارا بأحد أئمة المحدثين، وهو السيد علي الترمذي .
ـ ميلاده في قرية "أسعد آباد في خطة "كنر" من أعمال "كابل" في شهر شعبان 1254 هـ ، 1838م.
ـ كانت لأسرته السيادة علي جزء من الأراضي الأفغانية ، تستقل بالحكم فيها، وسلبت الإمارة منها علي يد الأمير "دوست محمد خان" بعد مولد السيد جمال الدين.
ـ التحق بمدرسة قزوين، التي كان والده يعمل بها مدرسا، وسافر به والده بعد ذلك إلي طهران خوفا عليه من مرض الطاعون، ومنها إلي النجف، التي مكث فيها 4 سنوات، درس في هذه السنوات الأربع التفسير، والحديث، والفلسفة، والمنطق، والكلام، والأصول، والرياضة، والطب، والتشريح، والنجوم، وغادرها بعد حين إلي الهند معرجا علي "آسد آباد" حيث يقيم والده، الذي رغب إليه الإقامة بها، فاعتذر قائلا : " إني كصقر محلق يري فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه!، وإنني لأتعجب منكم إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الضيق الصغير!" ، ومن الهند أبحر قاصدا مكة المكرمة، للحج إلي بيت الله الحرام ..فوصل مكة 1274 ه (1857)، بعد أن مر في طريقه إليها بعدد من المدن زارها وأقام فيها .
ـ وبعد مكة زار النجف وكربلاء، ثم أسد آباد فطهران، التي أقام فيها بضعة أشهر، وكان أن افتتن به شيخ الطريقة الذهبية، ميرزا بابا الذهبي، فترك طريقته، ومدينته، وتبع السيد جمال الدين .
ـ كانت أول تجربة سياسية للسيد عندما سافر إلي كابل، عاصمة بلاده، ولقي فيها الأمير "دوست محمد خان"، فتوثقت بينهم الصلات، وانضم السيد إلي جيش "دوست محمد خان" لفتح "هراة"، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير، وفتحت المدينة بعد حصار طويل، وتقلد الإمارة من بعده ولى عهده "شير علي خان" سنة 1864م-1280 هـ .
ثم وقع الخلاف بين الأمير الجديد وأخوته، إذ أراد أن يكيد لهم ويعتقلهم، فانضم السيد جمال الدين إلى "محمد أعظم" أحد الأخوة الثلاثة، لما توسمه فيه من الخير. وأستعرت نار الحرب الداخلية، فكانت الغلبة ل"محمد أعظم"، بفضل تدبير السيد، فعظمت منزلة منزلته لديه، وقلده الأمير منصب الوزير الأول، وكاد بحسن تدبير السيد أن يستتب الأمر للأمير "محمد أعظم"، لكن الحرب الداخلية ما لبثت أن تجددت، إذ كان "شير علي" لا يفتأ يسعى لاسترجاع سلطته، وكان الإنجليز يعضدونه، بأموالهم، ودسائسهم، وأغدق "شير علي" الأموال على الرؤساء، الذين كانوا يناصرون الأمير "محمد أعظم"، فبيعت أمانات، ونقضت عهود، وجددت خيانات،عل حد تعبير الأستاذ الإمام محمد عبده، وانتهت الحرب بهزيمة "محمد أعظم"، وغلبه "شير علي"، وخلص له الملك.
بقي السيد جمال الدين بعد ذلك في كابل، لم يمسسه الأمير المتغلب بسوء، احتراما لعشيرته، وخوفا من انقضاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي.
ـ لم يطق السيد المكوث طويلا في كابل، فقد أصبح نظام الحكم الموالي للإنجليز عائقا أمام نشاطه، لذا فقد غادر كابل متجها إلي الهند، وهناك فرضت عليه الحكومة الإنجليزبة حصارا، يحول دون حرية حركته، ولكنها مع ذلك عجزت عن أن تحول بينه وبين أهل الهند، الذين توافدوا عليه، والتفوا حوله بالآلاف، فكان يخطب فيهم، ويحرضهم علي الثورة ضد الاستعمار، وأعوانه من أهل البلاد، وهاكم نموذج لإحدي خطبه التي سجلها المؤرخون:
"يا أهل الهند ، وعز الحق وسر العدل، لو كنتم وأنتم تعدون بمئات الألوف (ذبابا) مع حاميتكم، البريطانيين ومن استخدمتهم من أبنائكم فحمّلتهم سلاحها لقتل استقلالكم، واستنفاد ثرواتكم، وهم بمجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف ـ لو كنتم أنتم مئات الملايين ـ كما قلت ذبابا لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمي، ويجعل في آذان كبيرهم المستر (غلادستون) وقرا، ولو كنتم ـ أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله سلاحف، وخضتم البحر واحطتم بجزيرة بريطانيا العظمي لجررتموها إلي القعر وعدتم إلي هندكم أحرارا .وإلي هنا أذرفت دموع الحاضرين الذين جاءوا لسماع السيد ، فصاح فيهم بصوت عال قائلاً: " اعلموا أن البكاء ليس من أخلاق الرجال، فانهضوا للمطالبة بحقوقكم دون خوفٍ و لا ترددٍ، فلا حياة لقومٍ لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلالٍ بثغر باسم".
وأصاب الإنجليز قلقٌ شديدٌ لما كان السيد يبثه بين الهنود، فطالبوه بمغادرة الهند، ونقلته الحكومة البريطانية علي نفقتها في إحدي سفنها إلي السويس.
ـ وصل السيد الأفغاني لمصر في أول زيارة له في سنة 1286 هـ (1869م) . . فأقام بها نحو أربعين يوما، ومن القاهرة رحل إلي الآستانة، فاستقبل من عظمائها، وأهل العلم فيها استقبالا طيبا، وفي الآستانة درس اللغة التركية، وأتقنها بعد ستة أشهر، وتم تعيينه عضوا في المجلس الأعلي للمعارف، ومارس السيد نشاطا فكريا واسعا، فكان يلقي الخطب والأحاديث بجامع الفاتح الكبير، وكان مجلسه يجتذب الصفوة من المثقفين، وكبار رجالات الدولة، فحسده علي ذلك بعض كبار علماء الدين الرسميين، واتهمه أحدهم في دينه ، فثارت ثائرة السيد لذلك، ورأي السلطان في هذه المسألة ـ بعد أن صعد الأمر إليه ـ أن يغادر السيد الآستانة تهدئة للخواطر، وعزم السيد علي الذهاب إلي الهند عن طريق مصر.
ـ وصل السيد مصر 23 مارس سنة 1871م، عازما علي مغادرتها إلي الهند، بيد أن لقائه برياض باشا ـ أحد نظار الخديوي ـ جعله يغير من خططه، ليبقي بمصر، ومنحته الحكومة منزلا "بخان الخليلي" يقيم فيه، ورتبت له راتبا شهريا مقداره عشرة جنيهات، فاستقر، وطاب له المقام فيها.
يتحدث الأستاذ الإمام محمد عبده ـ وكان يومئذ طالبا بالأزهر ـ عن بداية لقائه ومعرفته بالسيد، فيقول: "إن أحد المجاورين الشوام قال لي: أنه جاء مصر عالم أفغاني عظيم، وهو يقيم في "خان الخليلي"، فسررت بذلك .. وأخبرت الشيخ حسن الطويل، مدرس المنطق والفلسفة بالأزهر ـ (وكان يمثل التيار المستنير بين علماء الأزهر ، وينحو نحو التصوف) ـ ودعوته إلي زيارته .. فوجدناه يتعشي، فدعانا إلي الأكل معه، فاعتذرنا، فطفق يسألنا عن بعض آيات القرآن، وما قاله المفسرون والصوفية فيها، ثم يفسرها لنا .. فكان هذا مما ملأ قلوبنا به عجبا وشغفنا به حبا .. لقد اهتدي إليه كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده، فأوري، واستفاضوا بحره ففاض درا، وحملوه علي تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلي والحكمة النظرية وعلم الفقه الإسلامي .. وقرأ لهم وشرح كتبا مثل : (الزوراء) للدواني ، في التصوف،و (شرح القطب علي الشمسية) و (المطالع) و (سلم العلوم) ، في المنطق ، و(الهداية) و (الاشارات) و (حكمة العين) و(حكمة الإشراق) ، في الفلسفة ، و(عقائد الجلال الدواني) ، في التوحيد و(التوضيح) و (التلويح)، في الأصول و (الجغميني) و (تذكرة الطوسي) في الهيئة القديمة، وكتب آخري في الهيئة الجديدة ... إلخ ..إلخ .
ـ كون السيد جمال الدين بعد فترة من مجيئه لمصر أول أحزاب الشرق الوطنية، (الحزب الوطني الحر)، وكان سريا، يرفع شعار "مصر للمصريين"، وتصدي الحزب لقضية التحرر من الحكم الاستبدادي، ومقاومة النفوذ الأجنبي، أوروبيا كان أم عثمانيا، وإلي جانب ذلك سعي السيد الأفغاني إلي تكوين جيل من كتاب المقالة، فقد كانت المقالة في هذا العصر أسيرة السجع، والمحسنات اللفظية، مستنفذة بذلك جهد الكاتب، لتخرج في أغلب الأحيان فارغة المعني .
ويسجل الإمام محمد عبده دور الأفغاني في هذا التطور الأدبي فيقول : إنه "حمل تلامذته علي العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية ، فاشتغلوا علي نظره وبرعوا، وقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون علي الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبدا الله باشا فكري، وخيري باشا، ومحمد باشا سيد أحمد، علي ضعف فيه، ومصطفي باشا وهبي، علي اختصاص فيه. وما عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة وإما مصنفون في بعض الفنون العربية والفقهية وما شاكلها. ومن عشر سنوات تري كتبة في القطر المصري لا يشق لهم غبار، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه ـ (الأفغاني) ـ أو عن أحد من تلامذته أو قلد المتصلين به. ومنكر ذلك مكابر ، وللحق مدابر! .."
ولم يقتصر عطاء السيد أو يقف عند هذا الحد، إذ دعا تلامذته إلي نشر أحاديثه، وشروحه، وتعليقاته، وآرائه، في الصحف، والمجلات، منسوبة إليهم، حتي صنع منهم كتابا، وأدباء، وقادة للرأي العام. وواكب ذلك سعيه لإنشاء صحافة حرة غير حكومية في مصر عبر تلامذته .
وتتابعت خطب الأفغاني، التي يحض فيها المصريين علي الثورة، ضد حكامهم المستبدين ـ آملا بذلك أن يوقظهم من سباتهم ،ويقيلهم من خضعوهم واستسلامهم ـ بكلمات كأنها السياط الحامية، ومن أمثال خطبه تلك، أن قال يوما: "إنكم ،معاشر المصريين، قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون، بل وراضون.. وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة مما يتحلب من عرق جباهكم بالمقرعة والسوط، وأنتم في غفلة معرضون! .. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوة، وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل والمسكنة، ولما صبرتم علي هذه الضعة والخمول، ولما قعدتم علي الرمضاء، وأنتم ضاحكون ! . . تناوبتكم أيدي الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس ، ثم العرب والأكراد والمماليك ، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين . . وكلهم يشق جلودكم بمضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت !
انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار ثيبة ـ طيبة ـ ومشاهد سيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
"فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم . . إن التشبه بالرشيد فلاح"
هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، انفضوا عنكم الغباوة والخمول.. وشقوا صدور المستبدين بكم، كما تشقون أرضكم بمحاريثكم .. عيشوا، كباقي الأمم، أحرار سعداء، أو موتوا مأجورين شهداء .."
ـ كان السيد مدركا لأهمية دور التنظيم في تحقيق ما ينشده من تغيير، فانضم إلي الحركة الماسونية، التي كانت تتمتع بسمعة حسنة في ذاك الزمان (فلم تكن الحركة الصهيونية قد تكونت بعد،ولم يكن لليهود أي نفوذ أو سيطرة علي المحفل الماسوني في ذلك الوقت)، وكان شعارها هو شعار الثورة الفرنسية " الحرية ـ الإخاء ـ المساواة" ،وضمت ـ في حينها ـ صفوة المجتمع المصري.
لكن السيد سرعان ما اكتشف تخاذل المحفل، ومهادنته للاستعمار وللاستبداد، فقد دعاهم إلي تطبيق شعار المحفل "الحرية ـ الإخاء ـ المساواة"، فما كان من قيادته إلا أن ردوا عليه قائلين: "إن الماسونية لا دخل لها في السياسة، وإنا لنخشي علي محفلنا هذا من تدخل الحكومة وبطشها!"، فثار السيد قائلا : "كنت أنتظر ان أسمع وأري في مصر كل غريبة وعجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل بين أسطوانتي المحافل الماسونية ! .. إذا لم تدخل الماسونية في سياسة الكون، وفيها كل بناء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تستعمل لهدم القديم، ولتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء، ومساواة، وتدك صروح الظلم، والعتور، والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة حجارة، ولا قامت لبنايتهم زاوية قائمة؟! .. ماسونيتكم اليوم لا تتجاوز: كيس أعمال، وقبول أخ، يتلي عليه من أساطير الأولين ما يمل ويخل في عقيدة الداخل . . وهي أمور لا يفقه أكثرنا مغزاها ولا المراد من وضعها؟!..".
ـ صار للسيد تلاميذ ومريدين من جميع أطياف المجتمع المصري، وكان من بين تلاميذه هؤلاء، المترددين عليه والآخذين عنه الأمير محمد توفيق باشا، ولي العهد، وكان يظهر للسيد إيمانه بالديمقراطية، والشوري، ورغبته في الإصلاح، فاعتقد السيد جمال الدين أن سرعة وصول توفيق للحكم تصب في صالح مشروعه الإصلاحي، فنادي و"الحزب الوطني الحر" بعزل الخديوي إسماعيل، وتولية ولي عهده الأمير محمد توفيق باشا، وسعوا لذلك، ونجح سعيهم نهاية الأمر، بعد أن تلاقت رغبتهم برغبة الفرنسيين( أصحاب النفوذ القوي في الآستانة آنذاك)، ولكن توفيق بعد توليه منصب الخديوية، أظهر العداء للسيد، ولكل ما ينادي به، فعندما طالب السيد جمال الدين توفيق بانفاذ وعوده السابقة بالإصلاح والتغيير، دار بين الاثنين حوار يكشف عن وجهة نظر كل منهما في مسألة الإصلاح، حيث قال الأخير للأول، وهو يحاوره، انه يحب المصريين، ولكن أكثر الشعب جاهل، لا يصلح أن يلقي عليه ما يقوله السيد، وأن هذا يسبب التهلكة لهم وللبلاد.
فما كان من السيد إلا أن رد عليه، قائلا :
"ليسمح لي صاحب السمو أن أقول بحرية، وإخلاص، ان الشعب المصري كسائر الشعوب، لا يخلو من وجود الخامل، والجاهل، بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلي الشعب المصري ينظر إليكم، وإن قبلتم نصح هذا المخلص، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد، عن طريق الشوري، فتأمرون باجراء انتخابات نواب عن الأمة، تسن القوانين، وتنفذها بإسمكم، وإرادتكم، يكن ذلك اثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم".
لم يحتمل الطاغية توفيق ما يبشر به السيد كثيرا، فقام بنفيه من البلاد بطريقة عنيفة، زاعما أنه "يقود جماعة من ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا".
وكان مما اتخذ معه من القسوة، أنه عندما أنزل في البحر لم يكن علي جسمه إلا قميص واحد، والوقت صيف، والحرارة شديدة، فتقرح جسده، ولم يكن معه من النقود أكثر من ثلاثة جنيهات عثمانية، وبعض قروش من الفضة ، وقد أخذ منه هذا المبلغ في السويس، فنزل البحر، وليس معه شئ!، ولما شعر بذلك أحمد بك النفاوي، قنصل إيران في السويس، حينئذ ،ذهب إلي تشييعه، وعرض عليه مبلغا من المال، فأبي أن يأخذ منه شيئا، وقال له " أنتم إلي المال أحوج، والليث لا يعدم فريسته أينما ذهب".
ـ انتقل السيد بعد ذلك إلي "حيدر آباد" بالهند، وفيها كتب رسالته الشهيرة "الرد علي الدهريين"، ولما قامت الثورة العرابية ألزمته الحكومة الهندية بالإقامة في "كلكته" إلي أن قضي الأمر بمصر، فتركت له حرية الحركة، إلي المكان الذي يشاءه، فسافر إلي باريس، وبعث برسالة إلي الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي كان منفيا يومئذ ببيروت، تنفيذا لأحكام المحكمة الخاصة التي حاكمت زعماء الثورة، وطلب منه اللحاق به في باريس .
ـ أصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى"،واشتركا في تحريرها ، وكانت مقالاتها جامعة بين روح السيد الثائرة العظيمة، وقلم محمد عبده البليغ، فجاءت آيات بينات، سمو المعاني وثوريتها، وبلاغة الألفاظ وحرفيتها،و ذاع شأنها في العالم الإسلامي، وأقبل عليها الناس، في مختلف الأقطار، لكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور، بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند، فصدر قرار بمنع دخولها مصر، بل وتغريم من توجد لديه نسخة منها من خمسة جنيهات إلى خمسة وعشرين جنيها، ولكن السيد لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية والثورية.
ـ لم يلبث السيد أن انتقل بعد فترة من إقامته في باريس إلي إيران، بدعوة من الشاه "ناصر الدين"، ولدي وصوله احتفى به وقربه، واعدا إياه أن يستجيب لمطامحه الخاصة بالتجديد، والإصلاح، والديمقراطية، و نال السيد تقدير الإيرانيين، وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، لكن سرعان ما اختلف مع الشاه "ناصر الدين" ـ كدأبه دائما مع الحكام الطغاة ـ الذي أحس بخطر أفكار السيد الإصلاحية على عرشه، فتغيرت معاملته له، وشعر السيد جمال الدين بذلك، فاستأذنه في السفر، ورحل إلى موسكو ثم بطرسبرج،وعاش بها عامين، نُشرت له فيها مقالات عن الاتحاد الإسلامي ضد الاستعمار البريطاني للبلاد الإسلامية، واستقبله قيصر روسيا أثناء فترة إقامته هناك، وسأله عن سبب خلافه مع الشاه "ناصر الدين"، فأجاب السيد : "إنه الحكومة الشورية، أدعو إليها، ولا يراها الشاه" ، فقال القيصر: "الحق مع الشاه، فكيف يرضي ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته؟!" فرد عليه السيد قائلا: " أعتقد يا جلالة القيصر، أنه خير للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاء له، من أن يكونوا أعدائه، يترقبون له الغرص!" فلم يعجب القيصر هذا الحديث، ونهض، علامة الأذن للسيد بالانصراف .
وأثناء مقامه ببطرسبرج زارها الشاه ناصر الدين، ورغب في لقاء السيد، لكن الأخير لم يأبه له، ورفض مقابلته .
ـ سافر السيد بعدها إلي ميونيخ، فأدركه الشاه هناك، وسعي إلي لقائه مرة أخري، وقام بعض كبار الساسة في ألمانيا بتدبير أمر لقائه بالشاه، ويصف السيد ذلك اللقاء فيقول : ""إن بعض الكبراء الألمان وغيرهم قد جمعوني به (الشاه) فرغّب إلي أن أذهب معه إلي بلاده ليجعلني رئيسا لوزراءه ، فأبيت وقلت : " إنني عزمت علي الذهاب إلي معرض باريس ، ولا أحب أن انقض عزمي" فألح علي أشد الإلحاح حتي ألزمني الذهاب معه، وكان يقول عني "هذا الرجل العالم السياسي الحربي جدير بأن يكون رئيسا للوزراء ، ويقوم بتدبير الشعب"!
وفي طهران ، قال الشاه مرحبا بالسيد :"يا سيدنا ، إنك قد أتيت أهلا، ونزلت سهلا، فقل الآن ما تريده، وما تطلب مني أن أفعله" ..
فقال السيد له : " أريد شيئين : أذنا صاغية تسمع ما أقوله، وإرادة قوية تأمر بإجراء ما سمعته؟"
،لكن الشاه سرعان ما نكص علي عقبيه، وشرع يضع العراقيل في وجه كل ما يقوم به السيد من إصلاحات، وكان أن استدعي الشاه السيد جمال الدين، قائلا له: "أيصحّ أن أكون يا حضرة السيد وأنا ملك ملوك الفرس كأحد أولاد الفلاحين؟!".
فأجابه السيد بثبات، وجرأة، تليق بشخصه العظيم، قائلا: "اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي عليه الآن..والفلاح والعامل والصانع في المملكة، يا حضرة الشاه أنفع من عظمتك ومن أمرائك .. ولا شك، يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون علي رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكا عاش بدون أمة ورعية؟!".
تصاعدت حدة العداء بين السيد والشاه إثر هذه المحادثة، وازدادت الكراهية بينهما، فاستأذن السيد في السفر إلي أوروبا، غير أن الشاه رفض السماح له بالسفر، وعزم علي تحديد إقامته، وعن هذا الأمر يتحدث السيد قائلا: "بعد أن مكثت مدة في بلاده طلبت الذهاب إلي أوروبا، فمنعني، وسمعت منه كلاما خشنا في حقي، وآراء رديئة، مآلها الحجر علي في البلاد الإيرانية، فأعملت الحيلة، وذهبت إلي مقام عبد العظيم ـ وهو من أحفاد بعض الأئمة، ومقامه حرم، من دخله كان آمنا ـ فمكثت هناك سبعة أشهر، كتبت في أثنائها عدة مقالات، وحررت في الجرائد جملة كتابات في مثالب الشاه المذكور، وحث الشعب علي خلعه".
ضج الشاه من نشاط السيد وتحريض الناس ضده، فقام بنفيه علي نحو بالغ القسوة، يصفه السيد قائلا: "سحبونى على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها فى الشناعة...ثم حملنى زبانية الشاه وأنا مريض على دابة مسلسلا فى فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقنى جحفلة من الفرسان إلى خانقين".
ألقي جنود الشاه بالسيد جمال الدين عند الحدود مع العراق، وعندما علمت السلطات العثمانية بوجوده استقبلته ، لكن السيد أراد أن يسافر إلي شبه الجزيرة العربية، فرفضت السلطات العثمانية طلبه ،وقامت بنقله من بغداد إلي البصرة بناء علي أوامر الآستانة، ومن هناك أرسل كتاباً إلى كبير المجتهدين في فارس "ميرزا محمد حسن الشيرازي"، عدد فيه مساوئ الشاه، وخص بالذكر تخويله إحدى الشركات الإنجليزية حق احتكار التباك في بلاد فارس، وما يفضي إليه من استئثار الأجانب بأهم حاصلات البلاد، وكان هذا النداء من أهم الأسباب التي جعلت كبير المجتهدين يفتي بحرمة استعمال "التنباك"، إلى أن يبطل الامتياز ، فاتبعت الأمة الإيرانية هذه الفتوى، وأمسكت عن تدخينه، واضطر الشاه خوفا انتفاض الأمة إلى إلغائه، ودفع للشركة الإنجليزية تعويضاً، وتقهقر النفوذ الأجنبي إلي الوراء قليلا بتلك الخطوة.
ـ غادر السيد البصرة بعد ذلك سريعا، متجها للندن،وذلك قبل أن تصدر الأوامر من الآستانة بمنعه من السفر، وهناك اشتغل بالكتابة في مجلة شهرية، تدعي"ضياء الخافقين"، وكانت تصدر باللغتين الإنجليزية والعربية.
هاجم فيها الأنظمة المستبدة، في العالم العربي، والإسلامي، مركزا علي مصر، وإيران، وبلغت حملاته أوج قوتها، حتي أن شاه إيران عرض عليه عن طريق سفيره في لندن أن يكف عن هذه الحملات، علي أن يرسل له ما يشاء من أموال.
فرد السيد علي ذلك العرض قائلا: "والله لن أرضي إلا أن يقتل الشاه وتبقر بطنه ويواري التراب".
(استمر السيد في مهاجمة الشاه، ودعا الشعب الإيراني إلي خلعه، وقويت دعوته للحرية في إيران، وأشتد سخط الناس علي الشاه "ناصر الدين" فقتل سنة 1896م، واستمرت دعوة الحرية التي غرسها جمال الدين في إيران تنمو، وتترعرع، حتي آلت إلي إعلان الدستور الفارسي سنة 1906م).
ـ لما فشل الشاه في مسعاه في أن يتوقف السيد عن مهاجمته، لجأ إلي السلطان العثماني عبد الحميد لعله يستطيع إثناء السيد عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان عبد الحميد أن يجذب السيد جمال الدين إلى نزول الأستانة سنة (1310هـ=1892م)، بعد أن أسر إليه بهدفه في نشر التضامن الإسلامي، وبناء صرح الجامعة الإسلامية، لمواجهة الاستعمار الذي يتربص بكافة الدول الإسلامية، وكان ذلك أحد أهداف السيد التي لطالما عمل علي تحقيقها، فقد كان يري أنه لا مناص من قيام الوحدة بين الدول العربية والإسلامية ـ تحت قيادة من لديه القدرة والرغبة ممن يحكمون تلك الدول ـ لمناهضة الزحف الاستعماري الأوروبي الذي يتهدد الأمة بأسرها .
لذا فقد لبى السيد دعوة السلطان، آملاً أن يرشده إلى إصلاح الدولة العثمانية، فرحل إلي الآستانة مع السلطان، وحفه عبد الحميد الثاني بالرعاية، والإكرام، وأنزله بقصر في حي من أفخم أحياء الأستانة، وأجرى عليه راتباً وافراً .
شمر السيد عن ساعديه ، وشرع في الدعوة إلي وحدة المسلمين خلف السلطنة العثمانية، علي اعتبار أنها أكبر الدول الإسلامية قاطبة، وخرجت من الآستانة رسائل إلي أنحاء العالم الإسلامي، وأشرك السيد معه في دعوتة علماء الشيعة، ومجتهديهم ، الذين كانوا يتخذون من اعاصمة الخلافة العثمانية منفي لهم لمعارضتهم حكم شاه إيران .
وفاجأ السلطان عبد الحميد السيد يوما بأن طلب منه أن يكف عن مهاجمة الشاه، فأنصت السيد جمال الدين دون أن يرد، فلما طال إلحاح السلطان عليه، قال منهيا الحديث : "قد عفوت عنه"، فهلع السلطان العثماني لجرأته، وقال له "يحق لسلطان العجم أن يخاف منك خوفا عظيما".
لم يأخذ السيد وقتا طويلا حتي أدرك أن السلطان العثماني برغم ذكائه ودهائه، لم ولن يعملهما في مناهضة السياسة الأوروبية الاستعمارية، وصار لديه يقين من أن عبد الحميد مثله مثل غيره من الطغاة، جل همه هو تثبيت حكمه، والبقاء علي كرسي عرشه، و ما عدا ذلك يأتي لاحقا، و لمس بنفسه أن ذكاء هذا الرجل ودهائه إنما هو موجه لمحاربة الإصلاح، والقضاء علي الأحرار، الذين يطالبون بالدستور، فأسقطه من حساباته، وسخر منه في مواقف عدة، ولم يأبه الثائر العظيم لما يمكن أن يلحقه من بطش نتيجة لذلك .
أخذ السيد يسخر من خلافة آل عثمان ، فيردد قائلا: "خلافة عظمي ؟! وإمامة كبري؟!
"لقد هزلت حتي بدا من هزالها . . كلاها وحتي سامها كل مفلس "!
ودخل يوما علي الطاغية عبد الحميد قائلا له: "أتيت لأستميح جلالتك في أن تقيلني من بيعتي لك؛ لأني رجعت عنها . . بايعتك بالخلافة، والخليفة لا يصلح أن يكون غير صادق الوعد"،وحاول السلطان أن يسترضيه بشتي الطرق، فأبي السيد إلا أن ينفذ وعده بالإصلاح، والتغيير
ظل السيد علي سخريته واستهانته بالطاغية عبد الحميد ولم تنفع محاولات استرضاءه، وكان أن كان السيد في حضرة السلطان يوما، ولاحظت حاشية السلطان أن السيد كان يلعب بحبات مسبحته، أثناء اللقاء فتحدث صوتا!، فلما خرجوا لفتوا نظره إلي أن أدب اللقاء يتنافي مع ذلك، فما كان من السيد إلا أن سخر منهم، ومن سلطانهم قائلا : "سبحان الله ! .. إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة علي هواه، وليس هناك من يتعرض منهم إليه، أفلا يكون لجمال حق أن يلعب بمسبحته كيف يشاء؟!"
وعرض عليه السلطان منصب شيخ الإسلام, فرفض، وكان رأيه فى عبد الحميد أنه ذكى واسع الاطلاع الحيلة، لكنه "جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته".
برغم كل ما وجهه السيد من نقد قاس إلي الطاغية عبد الحميد حتي أنه قال عنه مرة: "إن هذا السلطان سل في رثة الدولة"، وبرغم تحريضه علي خلعه، وخلع شاه ايران أيضا، وروي عنه في ذلك أنه قال: "إن خلعهما أهون من خلع نعلين" ،إلا أن الطاغية أصر علي بقاء السيد تحت ناظراه، ولم يسمح له بمغادرة الأستانة، ونشر جواسيسه حوله، وكان من عادة السيد أن يخرج كل يوم في عربة خصصت له، ليتنزه في إحدي المتنزهات، وفي إحدي هذه المرات، لاحظ السيد أن أحد جواسيس عبد الحميد، يلهث، علي قدميه وراء عربته .. فلما التقي بحاشية السلطان، قال لهم: إنكم أعطيتموني مركبة، وجعلتم لي جاسوسا بغير مركبة، فإذا أسرعت بعربتي، طفق يعدو ورائي، وهو يلهث كالكلب، ولا يدركني!، فهلا رحمتموه فأعطيتموه عربة ليدركني أني سرت؟!".
حاول الداهية عبد الحميد أن يحد من ثورية السيد، وأن يقيد حريته، بالزواج ، فأبي السيد ذلك، وعلق قائلاً: "يريد السلطان أن أتزوج ! مالي والزواج ، إني ما تزوجت هذه الدنيا العظيمة الجميلة، فكيف أتزوج بامرأة"،وعندما أخبرته حاشية السلطان أنه لا تصح مخالفة رغبته، رفض ذلك رفضا قاطعا حتي لو أدي الأمر به إلي أن يقوم بإزالة مقومات الزواج من جسده، كما أخبرهم .
ازداد حذر السلطان العثماني من السيد جمال الدين، وبغضه له، بخاصة بعدما جاءته الأنباء من إيران بأن الشاه قد قتل، علي يد أحد تلاميذ السيد، في نفس المكان الذي أخذ منه، لينفي خارج البلاد، بل وتم اغتيال كل من شاركوا في تخطيط وتنفيذ مسألة طرده، علي النحو المهين السالف ذكره .
كما أثار لقاء السيد بالخديو عباس حلمي الثاني مزيدا من السخط عليه من قبل عبد الحميد، وعن تلك المقابلة وتبعاتها يتحدث السيد فيقول: "إن الخديو كان شديد الرغبة في لقائي، لما كان يسمع عني من أولادي، وأحفادي، بمصر، فأرسل إلي في ذلك، فقلت: لابد في ذلك من أذن السلطان .. فاستأذن غير مرة بواسطة بعض رجال المابين (قصر السلطان) فكانوا يرجئون ويسوفون، ويحججون في الجواب ولا يفصحون ..وبينما أنا جالس في الكاغدخانة أصيل يوم من الأيام كعادتي، وإذا بفارس قد أقبل علي وترجل مسلما ، فقلت : من أنت؟
قال : عباس حلمي! فمكثنا ساعة زمانية نتحدث .
وطار الجواسيس إلي السلطان بالخبر ،فأرسل إلي ، فلما لقيته قال : أتريد ان تجعلها (الخلافة) عباسية؟! فقلت : إن بني العباس قد انقرضوا ن وبنوا علي أولي! . . إن مولانا يريد "عباس حلمي". . وهل هي خاتم فأضعها في أي إصبع شئت؟."!
زاد الطاغية من تضييقه علي السيد جمال الدين، ومن نشر جواسيسه حوله، ومنع عنه الراتب، وظل السيد يعاني المرض والإهمال طوال خمسة أشهر، وكان أن شكا السيد ألما في أسنانه، فوصف له غباره اليهودي ـ الذي كان أحد جواسيس القصر علي السيد ـ علاجا يتبعه، غير أن الآلام تزايدت عليه، وطلب من الطاغية الكريه عبد الحميد أن يأذن له بالسفر إلي أوروبا، للعلاج فرفض، وبعث له بطبيب القصر الذي رفع تقريره، بضرورة إجراء عملية جراحية، وبعيد إجرائها من قبل طبيب القصر اشتد الألم أكثر فأكثر علي السيد، فأجريت له العملية الثانية، وكانت بها نهايته، فلقى ربه في يوم الثلاثاء، التاسع من شهر مارس،في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثالثة عشرة، عام 1897م. وشيعت جنازته فلم يسر فيها إلا أفراد معدودون غلبتهم الجرأة والوفاء للرجل العظيم، ودفن في حراسة من رجال البوليس في مقبرة متواضعة ،كما منعت الجرائد فى الولايات العثمانية من تأبينه، وصودرت كل جريدة جرأت علي تحدي قرار المنع .
رحم الله سيدنا جمال الدين الأفغاني "رضي الله عنه وأرضاه"، فقد أيقظ وحده أمما وشعوبا بأسرها، وسار في البلاد يعلم أهلها الحكمة، ويهديهم سواء السبيل، كان كالكوكب السيار، الذي يتنقل بين مداراته، فلا يدع سهلا إلا ألقي عليه من ضياءه، ولا يترك أرضا وطئتها قدماه، ولا موضعاً أو مكاناً يلائم دعوته، إلا وبذر فيه من فكره الثوري، ضد الاستبداد والاستعمار.
لم يكن سيد الثوار جمال الدين الأفغاني واحدا من أولئك الذين عاشوا حياتهم، عبيدا للقمة عيش، أو لشواغل حياة، بل وهب حياته عن طيب خاطر، لرفعة أمته. خاض المعارك الضارية في سبيل إيقاظها، ولم تهدأ نفسه الثائرة العظيمة يوما عن محاربة أدوائها، رغم كل ما لاقاه من صعوبات، وعنت بالغين، فكان كأنه نبي أو رسول، قد أتاه اليقين من ربه، فاطمأنت نفسه، ورضت بقضاء بارئها .
فسلام عليه يوم ولد، وسلام عليه يوم مات، وسلام عليه يوم يبعث حيا.