لدي سائق هندي سافر مؤخرا للزواج بعد إلحاح والده الذي تجاوز سن التسعين .. وقبل أيام اتصل بي لينقل لي خبرين أحدهما "سعيد" والآخر "حزين" .. الخبر السعيد أنه تزوج وانتقل مع عروسه الجديدة الى بيت والده ، والحزين أن والده توفي في اليوم التالي من زواجه ...
وحينها فقط تذكرت حالات كثيرة مماثلة بدا فيها الآباء والأجداد وكأنهم في حالة انتظار لمناسبة عائلية يموتون بعدها .. فكم مرة مثلا سمعت طاعنا في السن يدعو ربه أن يؤخر وفاته حتى يرى أحفاده أو يزوج آخر أبنائه .. وكم مرة سمعت "أما" أو "جدة" تتمنى على الله البقاء لرؤية بناتها أو حفيداتها في "الزفة" وكم مرة استجاب الله بلطفه وكرمه لهذه المطالب ثم أخذ أمانته بعد انتهاء "المناسبة" المعنية!!
وبطبيعة الحال نحن نتحدث هنا عن (غلبة النسبة) وارتفاع معدل الوفيات بعد المناسبات والأحداث المهمة .. وأمثله كهذه لا تعني أن هناك من لا يموت قبل ذلك ؛ غير أن ملاحظاتنا العامة والأرقام التي جمعت بهذا الخصوص تؤكد ارتفاع معدل الوفاة (بعد المناسبات) بشكل واضح واستثنائي ..
فسائقي الخاص مثلا كان أصغر الأبناء وأنجبه والده في سن السبعين .. وكان بالإضافة الى سنه المتقدمة يصارع الموت منذ عشرة أعوام ولكنه كان يتمنى البقاء حتى زواج ابنه الأصغر وهذا ما حدث فعلا ..
وماحدث مع والد سائقي "مقصود" يذكرني بظاهرة أكثر غرابة تتعلق بعلاقة الإنجاب بالعمر الطويل .. ففي كل المجتمعات لوحظ أن من لا يُنجبون من الرجال يموتون في سن أصغر ممن ينجبون عددا وافرا من الأبناء .. واليوم أصبح في حكم المؤكد أن عامل الابوة وحده كفيل بإطالة حياة الرجل بمتوسط 9 أعوام مقارنة بغير المنجب .. وفي حين فسر البعض هذه الظاهرة بعدم اهتمام العازب بصحته وعدم وجود عائلة ترعاه فسرها البعض الآخر بأن الرجل المنجب يملك سببا قدريا ودافعا روحانيا للعيش حتى الاطمئنان على أبنائه وأحفاده !!
وحين تسترجع ذكرياتك بأمانة ستلاحظ أن هذه الظاهرة الغريبة لا ترتبط فقط بالمناسبات العائلية بل وتتجاوزها إلى المناسبات الدينية .. فنسبة كبيرة مثلا من كبار السن يموتون بعد أن يبلغهم الله شهر رمضان أو حج بيته الحرام .. كما ترتفع نسبة الوفيات في نهاية رمضان وبداية شوال (كما لاحظت شخصيا من كثرة الصلاة على الأموات في الحرم النبوي في العشر الأواخر من رمضان والأيام الأولى من عيد الفطر) ..
ونفس الظاهرة نلاحظها في معظم المجتمعات وتبدو واضحة بمجرد إلقاء نظرة على نمط الوفيات فيها .. فقد اتضح مثلا أن نسبة الوفيات ترتفع في الصين بشكل واضح بعد رأس السنة القمرية والاسبوع التالي لاحتفال "حصاد القمر" السنوي .. وهناك دراسة بين أفراد المجتمع اليهودي في فلوريدا تثبت ارتفاع وفيات المسنين بعد الأول من أكتوبر (عيد رأس السنة اليهودي) وبعد 15 ابريل (عيد الفطير) وكذلك بعد عيد صورماريا (أو يوم الغفران) .. ولو حدث وراجعت صفحة الوفيات في صحيفة الأهرام المصرية لكتشفت ارتفاع نسبة الوفيات بين الأقباط بعد شهر ديسمبر بالذات (حيث الاحتفال الكبير بمولد عيسى عليه السلام في 29 كيهك) .. ورغم عدم اطلاعي على ما يخص المجتمعات المسيحية الأخرى إلا أنني على ثقة بارتفاع نسبة الوفيات بعد عيد الكريسمس (أو ميلاد المسيح الموافق 25 ديسمبر)...
وفي المقابل ؛ أتصور انخفاض هذه الظاهرة بين من لا يؤمنون بوجودها (حيث لا تلاحظ مثلا بين غير المتدينين من اليهود والنصارى) .. وفي حين لا يحزن الصينيون التقليديون في حال توفي أحدهم بعد رأس السنة (كون بقائه دليلا على رضا الآلهة) تنظر الأجيال الجديدة لهذا الاعتقاد بنوع من الازدراء والاستخفاف ..
أما لدينا نحن المسلمين فالأمر مجرد قضاء وقدر (لمن لا يصدق بوجود الظاهرة) في حين أنها دعوة مستجابة (لمن يؤمن بوجودها) أكرم الله صاحبها بإحيائه إلى حيث يرى أحفاده وأحفاد أحفاده ..
الكاتب/ فهد عامر الأحمدي
صحيفة الرياض السعودية 12/10/2009