خلال عشرة أعوام كرّمت لجنة نوبل السويدية أدب المنطقة الألمانية ثلاث مرات. التكريم الأول لغونتر غراس في عام 1999 جاء متأخراً جداً لروائي أبدع معظم أعماله الكبيرة، لا سيما روايته الخالدة «الطبل الصفيح»، قبل ذلك بعقود. كان الاحتفاء بغراس في الذكرى العاشرة لسقوط جدار برلين تكريماً لا يخلو من بعد سياسي لبلد ظل اسمه مرتبطاً منذ فترة الحرب العالمية الثانية بجرائم الحقبة النازية البشعة والكريهة. صحيح أن لجنة نوبل التفتت قبلها - في عام 1972 - إلى الألماني هاينريش بُل، غير أن ذلك الالتفات كان بمثابة منح الأدب الألماني صك البراءة، أما تكريم غراس فكان اعترافاً بإنجازات الأدب الألماني الحديث وإعادة الاعتبار له على نحو نهائي.
بعد تكريم غراس بخمسة أعوام فاجأت اللجنة السويدية الجميع عام 2004 واختارت الكاتبة النمسوية إلفريده يلينك لمنحها الجائزة. والآن – وبعد خمسة أعوام أخرى وفي الذكرى العشرين لانهيار النظام الشيوعي – فجّرت اللجنة مفاجأة أكبر مع اختيار هِرتا مولر. هل هناك ما يجمع بين غراس ويلينك ومولر؟ الإجابة واضحة، وهي – لا سيما في حالة غراس ومولر – الكتابة ضد النسيان. عبرَ القزم أوسكار ماتسيرات - القزم الذي يقرر أن يتوقف عن النمو حتى لا يصبح إنساناً «عادياً» - وجه غراس رسالته السياسية إلى المجتمع الألماني الذي سعى بعد الحرب بكل قوته إلى العودة بسرعة إلى الحياة «العادية»، وكأن فترة النازية لم تكن. مهاجمة عقلية التناسي والإزاحة التي سيطرت على الألمان بعد الحرب كانت أحد الموضوعات الرئيسة في أدب غراس الذي لم يمل انتقاد تحول المجتمع الألماني بعد الحرب إلى مجرد واجهات جميلة تخفي ما وراءها من أنقاض قبيحة.
هذا ما فعلته أيضاً إلفريده يلينك في روايتها الضخمة «أبناء الموتى» (1995) التي تناولت فيها بالنقد العنيف تاريخ النمسا النازي، وإن كانت يلينك قد اشتهرت برواياتها «الجريئة» و «المضادة للبورنوغرافيا»، مثل «عازفة البيانو» و «شبق» و «شره».
أما هِرتا مولر المولودة (عام 1953) فهي ما زالت تكتب عن مسقطها رومانيا وعن ماضيها الشيوعي، عن حال القمع والقهر والظلم الذي يعانيه المواطنون في نظام شمولي، على رغم أنها تعيش منذ عام 1987 في برلين (الغربية) وحصولها على الجنسية الألمانية.
في نصها المؤثر «الليل مصنوع من الحبر» الذي نُشر كتاباً مسموعاً، وفيه تتحدث هرتا مولر - بتلقائية ومن دون أن تقرأ من نص مكتوب - عن طفولتها في منطقة «بانات» الرومانية التي تقطنها الأقلية الألمانية وعما تعرضت إليه من عسف المخابرات الرومانية الذي دفعها إلى التفكير مراراً في الانتحار: «لفترة كنت أفكر في الانتحار، بل وبدأت التحضير لذلك مرات عدة. غير أنني في النهاية لم أفعلها. (...) لم أعد أريد الحياة. كنت أود أن يحدث هذا من تلقاء نفسه. أن أختفي ببساطة وألا أجد نفسي على قيد الحياة. غير أن ذلك مستحيل. (...) لم أعد أستطيع الحياة في هذا البلد. كم من مرة أمسكوا بي وسحبوني معهم. كانوا يأتون إلى الشقة عندما لم يكن أحد فيها. كانوا يتركون إشارات. (...) عندما كانوا يحققون معي كانوا يهددونني. ببساطة، لم أعد أستطيع التحمل. لم تعد لدي القدرة. لم أعد أستطيع العيش من دون خوف. لم تعد هناك بديهيات في حياتي. أمسى الخوف رفيقي الدائم، الخوف من أن يدسوا السم في الطعام عندما يكونون في الشقة، ثم أذهب أنا إلى الثلاجة وأتناول شيئاً ثم... كنت أفكر دوماً في أنهم سيقولون عندئذ إنني سممت نفسي».
هذه الفترة القاسية التي عاشتها في رومانيا هي بمثابة البئر التي ما زالت مولر تمتح منها مادة الكتابة. كما أن ظلال الحرب العالمية الثانية لم تفارق مخيلتها بعد، فأبوها خدم في سلاح الإس إس، إحدى أكثر فرق النازية وحشية ودموية، أما أمها فقد رحّلت إلى الاتحاد السوفيتي حيث أجبرت على العمل في أحد المعسكرات. عندما بدأت مولر الكتابة ونشر القصص القصيرة في رومانيا كانت تعمل مترجمة في أحد المصانع، غير أنها فُصلت لرفضها التعاون مع جهاز المخابرات. بعد ذلك استطاعت أن تهرّب مخطوطتها الأولى «منخفضات» إلى ألمانيا حيث تم نشرها عام 1984. وعندما رحلت مولر إلى برلين الغربية واستقرت فيها عام 1987 أرادت أن توجه رسالة ضد النسيان، فنشرت عام 1992 روايتها الأولى «الثعلب كان آنذاك هو الصياد» التي تصور حياتها في ظل نظام شمولي قامع، ثم أعقبت تلك الرواية بعملين تناولا أيضاً فظائع حقبة تشاوشيسكو، وهما «حيوان القلب» (1994) و «ليتني لم أقابلني اليوم» (1996). وفي عام 2000 تحولت مولر إلى الشعر ونشرت ديواناً بعنوان «في عقدة الشعر تسكن سيدة»، أعقبته في عام 2005 بكولاج من الأشعار بعنوان «السادة الشاحبون بفناجين القهوة التركية»، كما نشرت في عام 2003 مجموعة من المقالات بعنوان «الملك ينحني ويقتل». وفي هذا العام عادت مولر إلى الرواية وإلى الماضي الذي عاشته في رومانيا بروايتها «أرجوحة الأنفاس» التي تتناول ما واجهته الأقلية الألمانية في رومانيا من ظلم وعسف، وما تعرض إليه أفرادها من ترحيل قسري إلى الاتحاد السوفيتي.
هرتا مولر كاتبة كبيرة لم تُقرأ بعد على نطاق واسع، لا في ألمانيا، ولا في العالم. وقد استطاعت بأعمالها – كما قالت لجنة نوبل – أن «تصور عبر الشعر المكثف والنثر الموضوعي مناطقَ الحرمان واللاوطن». أما المميز في أدبها بحسب النقاد فهو قدرتها على الكتابة عن القمع والقهر بلغة شعرية مرهفة.
إثر الإعلان عن حصولها على جائزة نوبل توجهتُ إلى عدد من المكتبات الألمانية، فلم أجد نسخة واحدة من أعمالها التي توزع على نطاق ضيق نسبياً. كانت الحال مختلفة مع غراس ويلينك. ستغير الجائزة بالطبع هذا الوضع على مستوى العالم، وستتوالى الترجمات إلى اللغات المختلفة، ومنها العربية حيث تجرى الآن ترجمة روايتها الأخيرة «أرجوحة الأنفاس» ضمن مشروع «كلمة» في أبو ظبي الذي تشرف عليه هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
بون – سمير جريس