إن من يقرأ "ذاكرة الجسد"، يتملكه شعوران شعور بالمتعة فهو يقف أمام نص فيه من الشاعرية كثير، وشعور آخر بالحيرة والتساؤل. ماذا قصد الكاتب ولم تهدف تلك الرواية؟
فذاكرة الجسد رواية تحمل أبعاد عدة؛ ففيها بعد تاريخي من خلاله استعرضت الكاتبة تاريخ الجزائر وعرضت لأحداث في الوطن العربي، كذلك تضمنت الرواية بعداً مجتمعياً وعقائدياً انتقدت فيه الكاتبة معظم المظاهر المجتمعية الشكلية وكذلك العقائد الدينية المزيفة في الأوطان العربية عموماً وفي الجزائر تحديداً. الرواية لا تقف عند هذا القدر فهي كذلك تعكس بعداً أيديولوجياً توضح فيه زيف الطبقات "الرأسمالية" في المجتمعات العربية وهشاشتها وعلاقات النفاق والتلفيق التي تحكم أصحاب تلك الطبقة، معرجة إلى أولئك الذين انبطحوا بمبادئهم بعد الثورة وأخذوا يعقدون صفقات مع الدول الأجنبية تعود بالضرر على بلادهم ذلك كله بهدف إرباء ثرواتهم.
كل ذلك تتعرض له أحلام بشكل روائي تتضافر فيه روعة السرد مع إتقان محكم لمصطلحات اللغة، سواء المباشرة أو الرمزية منها. وأن كل هذه الأبعاد التي حملتها الرواية تمر كي تتمحور جميعها حول تعلق البطل "خالد" لوطنه الجزائر، فهو ثوري شارك في ثورة الجزائر وبترت يده اليسرى أثناء الثورة، ولكنه بعد الاستقلال وتغير صورة الأوطان لم يعد يرى بلاده كما حلم بها بل بدأ يشعر باغتراب أطبق على صدره فجزائره التي حلم بها دائماً لم تعد تتسع لمثله من أصحاب المبادئ الثورية الذين لم تتبدل جلودهم بعد الثورة؛ ما دفعه إلى ترك بلاده قاصداً فرنسا.
في فرنسا تجمعه الأقدار بها، تلك الأنثى التي تحيرنا الكاتبة في إشارتها إليها، فهل هي تمثل صورة الوطن أم أنها المحبوبة الحقيقية لخالد.
والمفارقة في تلك العلاقة تكمن في أن، محبوبة خالد هي ابنة قائده في الثورة "سي الطاهر"، وهي التي أوصاه سي الطاهر على أن يحمل اسمها ليسجلها في الدفاتر الرسمية -هي لا يتجاوز عمرها عدة سنوات- أثناء الثورة.
في فرنسا تجمعهما الصدفة في معرض للرسم ولحظتها ينتابه شعور عارم بالحب تجاه تلك الفتاة التي تصغره بخمسة وعشرين عاماً، تبادله مشاعر، هو نفسه لا يدري إن كانت مشاعر حب، أم مشاعر ارتياح، أم أنها وجدت فيه أباً يعوضها عما فقدته باستشهاد والدها سي الطاهر.
أحبها خالد لدرجة العشق الجنوني وكانت في لحظات تمنحه أمل أنها تبادله نفس الحب، واستمر على ذلك الأمل حتى جاءته دعوة من عمها "سي الشريف" ليحضر حفل زفافها، ويومها انتابه شعور غريب بالألم ممزوج بشعور آخر بالدهشة، فحلمه الذي عاش على أمل أن يتحقق في يوم ما يضيع منه في لحظة، بل وفي ظل هذا الضياع يُطلب منه حضور ضياع حلمه بنفسه.
يذهب خالد إلى قسنطينة، تلك المدينة التي وجد فيها صورة محبوبته، ووجد في محبوبته صورة مدينته، ها هي تضيع منه كما ضاعت حبيبته، يعود إلى قسنطينة ليشعر بغربة أكثر مرارة مما كان قد شعر بها من قبل؛ فبلاده لم تعد تمنحه ذلك الدفء الذي كان يشعر به من قبل، فكل شي قد تغير، والقيم والعادات قد تغيرت، والناس زُيفوا، ولم يعد أحداً يُذكره بتلك المدينة التي طالما رسمها في لوحاته ورأى فيها صورة المحبوبة "أحلام" كما كان يرى قسنطينة ممثلة بها.
فاليوم يوم زفاف أحلام، يوم ضاعت فيه كل أحلامه وشعر بحزن عميق، وقبل رجوعه إلى فرنسا تتصل به المحبوبة لتشكره على لوحته التي أهداها إياها بعد زفافها بيوم، وعلى الهاتف تصرح له أحلام بحبها، يومها يقرر خالد أن يقتل ذلك الحلم، ويقرر أن يهديها كتاباً كي يشعرها بقليل من الألم الذي أحدثته في نفسه.
يعود خالد قافلاً إلى فرنسا، محاولاً أن ينسى أحلام وذكراها إلى أن يصله نبأ وفاة أخيه حسان فيعود مرة ثانية إلى قسنطينة، ومن هناك يبدأ يحدثنا عن رحلته؛ فالرواية بدأتها مستغانمي حيث انتهت، فقد بدأت الرواية بعرض للزمن الحاضر حيث مكان وجود خالد في قسنطينة، ثم رجعت بنا إلى الوراء من خلال قيام خالد أثناء مكوثه في قسنطينة باسترجاع الأحداث التي رافقته مذ كان مشاركاً في الثورة مع الأبطال ضد الاحتلال الفرنسي إلى أن عاد –عودته الأخيرة- من فرنسا إلى قسنطينة ليقيم مع زوجة أخيه بعد وفاة أخيه حسان وكان ذلك عام 1988.
علاقة العنوان بمتن النص:
لقد كان العنوان حاضراً في معظم أجزاء النص؛ فالرواية بأكملها تمثل ذاكرة للبطل "خالد"، فهو يقوم من بداية الرواية بعملية استرجاع للذاكرة ليسرد لنا مسيرة حياته بكل تفاصيلها وما فيها من آمال وآلام وبكل ما حملته من نكسات تسبب بها الوطن أو تسببت بها المحبوبة.
أما عن كلمة الجسد، فقد كان حضورها في النص دائماً؛ فقد شكل انبتار يد خالد اليسرى نقطة تحول مهمة في حياته، لذا يمكننا القول بأن العنوان جاء مصداقاً لكل أجزاء النص، وتركز ذلك الانعكاس في آخر صفحة من صفحات الرواية في حوار دار بين خالد وبين جمركي في المطار، وذلك عند عودة خالد من فرنسا إلى الجزائر، حيث قال خالد أثناء حواره مع الجمركي: "كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه.. ولكنه لم يقرأني، يحدث للوطن أن يصبح أميا.
- إكرام الجزائر 4 مارس 2010