أرى أنه قبل الخوض في منا قشة أية ظاهرة أو قضية علمية أو فنية أو أدبية …الخ ..لابد من تحديد المفاهيم التي ترد في الميدان الذي يراد علاج هذه القضية في نطاقه.
أما الدافع إلى هذا التحديد، فهو ما يكتسبه من أهمية منهجية كبرى، تبتعد بالباحث عن الأحكام الجاهزة، والنظريات الأحادية ذات النزعة الشخصية.
وبهذا الصدد، سوف نحاول تحديد مفهوم الأدب إنطلاقا من آراء بعض الباحثين، مع الإشارة إلى أننا إذا أردنا سرد كل التعاريف الواردة في هذا المجال، فسوف يطول بنا المقام، وبالتالي ، سوف نقف حائرين أمام تباين واختلاف الاتجاهات والمدارس التي تكون وراءها.
ومفهوم الأدب عند العرب القدامى، لم يتبلور حسب رأي الدكتور محمد مندور، الذي وصف التعاريف الواردة والتي أعطوها للأدب بأنها تعاريف سطحية وضيقة، بينما يرى أن مفهوم الأدب عند الغربيين، أوسع وأشمل، حينما عرفوه بأنه يشمل كافة الآثار اللغوية وكل ما يثير في نفوسنا انفعالات عاطفية وإحساسات بالجمالية . وهنا لابد من الإشارة إلى أن المفاهيم الغربية للأدب، قد أثرت على نقادنا وباحثينا في هذا الميدان، حتى إنهم يحاولون إخضاع كل كبيرة وصغيرة للمناهج الغربية غير مبالين أبدا بأن البيئة والظروف التي ظهرت فيها تلك المدارس والاتجاهات والمذاهب الأدبية، هي غير الظروف التي ولد فيها الأدب العربي وترعرع وتطور. وهكذا نجد الدكتور محمد مندور الناقد الكبير، قد تأثر بالتعريف الآنف الذكر، وقال بالحرف في كتابه “الأدب وفنونه”: “… كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية أو هما معا” وبعد ذلك فطن إلى أن هذا التعريف ناقص، لأنه لم يحدد الأداة التي يستعملها الأدب للتأثير وتحقيق الأهداف، فحاول تدارك هذا النقص في كتابه “الأدب وفنونه”.
ولكن رغم ما يبدو لنا من أن الغربيين هم الذين حددوا مفهوم الأدب تحديدا دقيقا، إلا أن هناك محاولات قام بها بعض أدبائنا وعلمائنا اللغويين في القديم، فهذا شمس الدين السخاوي(ت 902ه) يقول: “إنه علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، وموضوعه اللفظ والخط من جهة دلالتهما على المعاني، ومنفعته إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا…”
وإذا حاولنا استقراء التعاريف التي وضعتها النظريات الحديثة للأدب، فسوف نجد أنها لا تعتبره إلا وسيلة للتواصل بين الكاتب والقارئ أو المستمع. وهذا أيضا يدل على تأثير اللسانيات الحديثة على ميادين الأدب والفنون الجميلة الأخرى.
وإذا أردنا الوقوف لحظة عند ماهية التجارب والأفكار التي يتم إيصالها إلى القارئ من طرف الكاتب، فسوف نركز على نقطة واحدة، ألا وهي مدى تأثير هذه التجربة في نفس المتلقي، وعلاقة هذا التأثير بالأدب الذاتي \والموضوعي.
لقد كثر الحديث عن الأدب الذاتي والأدب الموضوعي والواقعي إلى غير ذلك من المصطلحات التي تملأ آذاننا صباح مساء، كلما أردنا الخوض في قضايا الأدب والنقد، ولابد من أن نتناول هذه القضية بشيء من التروي والحذر، حتى نستطيع أن نبث هذا الأمر الشائك بنوع من التركيز.
وقبل أن نذهب بعيدا، لابد أن نؤكد أن العملية الإبداعية عملية معقدة جدا، ولن نستطيع الخوض في إشكالياتها نظرا لأن الغموض لازال يحيط بها، ولأن الكتابات السيكولوجية والأنتروبولوجية في هذا المجال قليلة بشكل ملفت للنظر كما يؤكد الباحثون في هذا الموضوع، إلا أن هذا لا يمنع من الاجتهاد والاعتماد على آراء بعض النقاد والأدباء الذين عالجوا الموضوع بجدية.
إن عملية الإبداع أو بالأحرى العمل المبدَع، يشتمل على سائر المستويات الاجتماعية والثقافية والنفسية… بحيث لا يمكن أن نفصل الأثر الأدبي عن مبدعه، لأنه جزء منه مهما ادعى الحياد والموضوعية في عملية الإبداع، لأنها تنطوي على بنيات لاشعورية يحدث دون أن يتحكم فيها المبدع بشكل مباشر.
يقول الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور في كتابه: ” حياتي في الشعر”:” فما لاشك فيه أن الشاعر إنسان أولا، وهو بهذه الصفة الأولى يعيش وينفعل ويفكر ويعمل ، ليخلق له من خلال هذه المستويات المختلفة من الحياة بنية بشرية تختلف عن غيرها. وهو في مرحلة الإبداع الفني ينظر في ذاته ليرى من خلالها الكون والكائنات، فلابد عندئذ أن تتحول التأثرات الفكرية المختلفة إلى دم يجري في أوعية نفسه. وهذه التأثرات ساخنة باطنية كالدم، لا يراها إلا الإنسان إلا إذا سالت على الأوراق” ” فالشاعر لا يعرض أراء، ولكنه يعرض رؤية”.
إن قضية الذاتية والموضوعية أمر يحتاج إلى إعادة نظر. وكما يؤكد ذلك الشاعر صلاح عبد الصبور في موضع آخر من كتابه فإن: “استعمال المصطلحين في عالم الفن تخريب وسوء فهم، فلا ذاتية ولا موضوعية في الفن، إذ أن كل فن جيد هو ذاتي وموضوعي في ذات الوقت، ولا يستطاع فصل جانب منه عن جانب إلا إذا استطيع فصل اللون في زهرة”.
إذن، فإن التجربة الأدبية التي يريد الكاتب إيصالها إلى الآخرين تتوقف جودتها على مدى التأثير في النفوس، واستثارة مكامن الأحاسيس والشعور، ولا يشترط فيها أن تكون ذاتية أو موضوعية، لأن الأدب فن، وليس علما له قوانين ثابتة وقوالب معينة يتشكل بشكلها.
فإذا فرضنا الوصايا على الأدب، فإننا سوف نقتل أهم شيء ينبني عليه، ألا وهي الموهبة والحاسة المبدعة، وبهذا الصدد، فإننا نجد حتى أقطاب المناهج الاجتماعية والذين يهتمون بالقضايا البنيوية في الأدب يؤكدون أن العمل الإبداعي له علاقة بالفرد المبدع، وبالتالي فإن هذا الفرد هو عنصر في الجماعة التي يعبر عن حياتها، ولو جاء عمله ذاتيا، لأن بنياته النفسية تشكلت في بيئة هذه الجماعة، فلنفرض مثلا أن شاعرا كتب قصيدة ذاتية ، ملؤها الشكوى والتوجع والتألم، أفنقول بأنه يعبر عن نفسه فقط؟ فمن أين اكتسب خبراته اللغوية أولا والعاطفية ثانيا؟ أليس من محيطه الاجتماعي الذي تربى فيه وشب وترعرع؟ إنه لا يعبر إذن إلا عما عاشته جماعته التي ينتمي إليها، ولو أنكر ذلك بعض ذوي النظرات السطحية. فهذا شيخ المنهج السوسيولوجي في الدراسات الأدبية، لوسيان جولدمان يقول: ” لا يوجد في الواقع سوى وعي كلي لجماعة معينة من الأفراد، وأنه لا يمكن فهم وعي الفرد إلا بواسطة فهم الوعي الكلي للأفراد المكونين للجماعة”.
بهذا، فإن جل المواقف التي يتخذها الفرد المبدع “ذاتية” كانت أو “موضوعية” تعتبر وليدة الظروف الاجتماعية، والثقافة والإيديولوجية، وحتى البنيات ذات الدلالات النفسية التي نعثر عليها في الأثر الأدبي، نجد لها أرضية موضوعية تشكلها، لأن الحياة النفسية للفرد تتشكل انطلاقا من الواقع.
وكختام لهذه المحاولة، نؤكد على أن نجاح التجربة التي ينقلها الكاتب أو الشاعر إلى القارئ أو المستمع، تتوقف على شروط فنية وجمالية، بالإضافة إلى غنى الموضوع وجديته، بحيث يجب ألا ننسى أن الفرق بين الأدب والكلام العادي هو في القضايا والمميزات الفنية التي يتميز بها الأدب دون غيره من الكلام العادي الذي يشمل أصنافا من الخطابات مثل المتون المنظومة وغيرها، وقد فطن إلى ذلك الكثير من أدبائنا ، ونسوق لذلك مثالا قول أمير الشعراء أحمد شوقي :
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة ***** أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
أما الدافع إلى هذا التحديد، فهو ما يكتسبه من أهمية منهجية كبرى، تبتعد بالباحث عن الأحكام الجاهزة، والنظريات الأحادية ذات النزعة الشخصية.
وبهذا الصدد، سوف نحاول تحديد مفهوم الأدب إنطلاقا من آراء بعض الباحثين، مع الإشارة إلى أننا إذا أردنا سرد كل التعاريف الواردة في هذا المجال، فسوف يطول بنا المقام، وبالتالي ، سوف نقف حائرين أمام تباين واختلاف الاتجاهات والمدارس التي تكون وراءها.
ومفهوم الأدب عند العرب القدامى، لم يتبلور حسب رأي الدكتور محمد مندور، الذي وصف التعاريف الواردة والتي أعطوها للأدب بأنها تعاريف سطحية وضيقة، بينما يرى أن مفهوم الأدب عند الغربيين، أوسع وأشمل، حينما عرفوه بأنه يشمل كافة الآثار اللغوية وكل ما يثير في نفوسنا انفعالات عاطفية وإحساسات بالجمالية . وهنا لابد من الإشارة إلى أن المفاهيم الغربية للأدب، قد أثرت على نقادنا وباحثينا في هذا الميدان، حتى إنهم يحاولون إخضاع كل كبيرة وصغيرة للمناهج الغربية غير مبالين أبدا بأن البيئة والظروف التي ظهرت فيها تلك المدارس والاتجاهات والمذاهب الأدبية، هي غير الظروف التي ولد فيها الأدب العربي وترعرع وتطور. وهكذا نجد الدكتور محمد مندور الناقد الكبير، قد تأثر بالتعريف الآنف الذكر، وقال بالحرف في كتابه “الأدب وفنونه”: “… كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية أو هما معا” وبعد ذلك فطن إلى أن هذا التعريف ناقص، لأنه لم يحدد الأداة التي يستعملها الأدب للتأثير وتحقيق الأهداف، فحاول تدارك هذا النقص في كتابه “الأدب وفنونه”.
ولكن رغم ما يبدو لنا من أن الغربيين هم الذين حددوا مفهوم الأدب تحديدا دقيقا، إلا أن هناك محاولات قام بها بعض أدبائنا وعلمائنا اللغويين في القديم، فهذا شمس الدين السخاوي(ت 902ه) يقول: “إنه علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، وموضوعه اللفظ والخط من جهة دلالتهما على المعاني، ومنفعته إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا…”
وإذا حاولنا استقراء التعاريف التي وضعتها النظريات الحديثة للأدب، فسوف نجد أنها لا تعتبره إلا وسيلة للتواصل بين الكاتب والقارئ أو المستمع. وهذا أيضا يدل على تأثير اللسانيات الحديثة على ميادين الأدب والفنون الجميلة الأخرى.
وإذا أردنا الوقوف لحظة عند ماهية التجارب والأفكار التي يتم إيصالها إلى القارئ من طرف الكاتب، فسوف نركز على نقطة واحدة، ألا وهي مدى تأثير هذه التجربة في نفس المتلقي، وعلاقة هذا التأثير بالأدب الذاتي \والموضوعي.
لقد كثر الحديث عن الأدب الذاتي والأدب الموضوعي والواقعي إلى غير ذلك من المصطلحات التي تملأ آذاننا صباح مساء، كلما أردنا الخوض في قضايا الأدب والنقد، ولابد من أن نتناول هذه القضية بشيء من التروي والحذر، حتى نستطيع أن نبث هذا الأمر الشائك بنوع من التركيز.
وقبل أن نذهب بعيدا، لابد أن نؤكد أن العملية الإبداعية عملية معقدة جدا، ولن نستطيع الخوض في إشكالياتها نظرا لأن الغموض لازال يحيط بها، ولأن الكتابات السيكولوجية والأنتروبولوجية في هذا المجال قليلة بشكل ملفت للنظر كما يؤكد الباحثون في هذا الموضوع، إلا أن هذا لا يمنع من الاجتهاد والاعتماد على آراء بعض النقاد والأدباء الذين عالجوا الموضوع بجدية.
إن عملية الإبداع أو بالأحرى العمل المبدَع، يشتمل على سائر المستويات الاجتماعية والثقافية والنفسية… بحيث لا يمكن أن نفصل الأثر الأدبي عن مبدعه، لأنه جزء منه مهما ادعى الحياد والموضوعية في عملية الإبداع، لأنها تنطوي على بنيات لاشعورية يحدث دون أن يتحكم فيها المبدع بشكل مباشر.
يقول الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور في كتابه: ” حياتي في الشعر”:” فما لاشك فيه أن الشاعر إنسان أولا، وهو بهذه الصفة الأولى يعيش وينفعل ويفكر ويعمل ، ليخلق له من خلال هذه المستويات المختلفة من الحياة بنية بشرية تختلف عن غيرها. وهو في مرحلة الإبداع الفني ينظر في ذاته ليرى من خلالها الكون والكائنات، فلابد عندئذ أن تتحول التأثرات الفكرية المختلفة إلى دم يجري في أوعية نفسه. وهذه التأثرات ساخنة باطنية كالدم، لا يراها إلا الإنسان إلا إذا سالت على الأوراق” ” فالشاعر لا يعرض أراء، ولكنه يعرض رؤية”.
إن قضية الذاتية والموضوعية أمر يحتاج إلى إعادة نظر. وكما يؤكد ذلك الشاعر صلاح عبد الصبور في موضع آخر من كتابه فإن: “استعمال المصطلحين في عالم الفن تخريب وسوء فهم، فلا ذاتية ولا موضوعية في الفن، إذ أن كل فن جيد هو ذاتي وموضوعي في ذات الوقت، ولا يستطاع فصل جانب منه عن جانب إلا إذا استطيع فصل اللون في زهرة”.
إذن، فإن التجربة الأدبية التي يريد الكاتب إيصالها إلى الآخرين تتوقف جودتها على مدى التأثير في النفوس، واستثارة مكامن الأحاسيس والشعور، ولا يشترط فيها أن تكون ذاتية أو موضوعية، لأن الأدب فن، وليس علما له قوانين ثابتة وقوالب معينة يتشكل بشكلها.
فإذا فرضنا الوصايا على الأدب، فإننا سوف نقتل أهم شيء ينبني عليه، ألا وهي الموهبة والحاسة المبدعة، وبهذا الصدد، فإننا نجد حتى أقطاب المناهج الاجتماعية والذين يهتمون بالقضايا البنيوية في الأدب يؤكدون أن العمل الإبداعي له علاقة بالفرد المبدع، وبالتالي فإن هذا الفرد هو عنصر في الجماعة التي يعبر عن حياتها، ولو جاء عمله ذاتيا، لأن بنياته النفسية تشكلت في بيئة هذه الجماعة، فلنفرض مثلا أن شاعرا كتب قصيدة ذاتية ، ملؤها الشكوى والتوجع والتألم، أفنقول بأنه يعبر عن نفسه فقط؟ فمن أين اكتسب خبراته اللغوية أولا والعاطفية ثانيا؟ أليس من محيطه الاجتماعي الذي تربى فيه وشب وترعرع؟ إنه لا يعبر إذن إلا عما عاشته جماعته التي ينتمي إليها، ولو أنكر ذلك بعض ذوي النظرات السطحية. فهذا شيخ المنهج السوسيولوجي في الدراسات الأدبية، لوسيان جولدمان يقول: ” لا يوجد في الواقع سوى وعي كلي لجماعة معينة من الأفراد، وأنه لا يمكن فهم وعي الفرد إلا بواسطة فهم الوعي الكلي للأفراد المكونين للجماعة”.
بهذا، فإن جل المواقف التي يتخذها الفرد المبدع “ذاتية” كانت أو “موضوعية” تعتبر وليدة الظروف الاجتماعية، والثقافة والإيديولوجية، وحتى البنيات ذات الدلالات النفسية التي نعثر عليها في الأثر الأدبي، نجد لها أرضية موضوعية تشكلها، لأن الحياة النفسية للفرد تتشكل انطلاقا من الواقع.
وكختام لهذه المحاولة، نؤكد على أن نجاح التجربة التي ينقلها الكاتب أو الشاعر إلى القارئ أو المستمع، تتوقف على شروط فنية وجمالية، بالإضافة إلى غنى الموضوع وجديته، بحيث يجب ألا ننسى أن الفرق بين الأدب والكلام العادي هو في القضايا والمميزات الفنية التي يتميز بها الأدب دون غيره من الكلام العادي الذي يشمل أصنافا من الخطابات مثل المتون المنظومة وغيرها، وقد فطن إلى ذلك الكثير من أدبائنا ، ونسوق لذلك مثالا قول أمير الشعراء أحمد شوقي :
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة ***** أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
بقلم: حسن مددي
القسم:
بحوث ودراسات