الثلاثية المصرية

6ca78978b2bf187355b04f0d4f9fc81c

عندما نقرأ جملة الثلاثية المصرية يتبادر إلى الذهن ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، و لكننا هنا بصدد ثلاثية أخرى جديدة على الساحة المصرية بعد الثورة المجيدة، و هي ثلاثية السلطة.
فعندما نرصد الواقع المصري - بعد عام من ثورة شعبية أذهلت العالم بسلميتها و إصرارها على تقديم نموذج جديد للشعوب التي تريد التحرر من ربق العبودية لغير الله – نجد أن بعد تنحي رأس النظام الفاسد تنازعت السلطة ثلاث قوى فرضت نفسها على الواقع السياسي في مصر بعد الثورة و هي:
1-    قوى العسكر: الذين قفزوا على السلطة و التهموا الثورة مستميتين في حماية مصالحهم، و الحفاظ على الكيان المترهل القديم و صيانته من السقوط بالكامل فتنكشف كل الأوراق، و ممثلو هذه القوة لا يستمعون إلا لأنفسهم و لا يعرفون لغة الحوار مع الآخر بحكم طبيعتهم العسكرية التي تعتمد على الأوامر و الصرامة.
2-    القوى المحافظة: و هي قوى تميل إلى المنهج الإصلاحي و ليس الثوري، هذه القوى تريد إزالة النظام الفاسد المترهل الموغل في احتقار الإنسان و إهدار كرامته في كل مناحي الحياة، و لكن منهجها في هذا هو التريث و التأمل لوقت طويل قبل اتخاذ خطوات حاسمة في اتجاه التغيير الجذري الذي تفرضه طبيعة الثورات، و هي تشترك مع قوى العسكر في منهج الإصلاح.
3-    القوى الثورية: و هي القوى الفاعلة على الأرض و المحركة للأحداث و التي لا تخلو جعبتها من حيل جديدة و متجددة للوصول إلى الحسم الثوري للتغيير الجذري في شتى مناح الحياة ، سياسية و اجتماعية و اقتصادية، و تتمسك هذه القوى بمبادئها مهما قابلتها العوائق و المعوقات ، فيظل الثوريون مستمرين في نداءاتهم و شعاراتهم التي رفعوها منذ أول يوم خرجوا فيه، و بالطبع تتعارض هذه القوى مع القوتين الأخريين تعارضاً  شديداً، و يظل احتمال الصدام قائماً و في بعض الأحيان يكون دموياً.
و لذلك فالمشهد السياسي في مصر بعد الثورة، و بعد مرور عام مازال ضبابياً، و هذا يرجع لأن كل من هذه القوى يعمل لصالحه و يحاول إقصاء الآخر بشتى الطرق و كلما سنحت الفرصة لذلك، و تبقى القوى الثورية هي الوحيدة التي لا تغير موقفها أبداً أما الآخرون فتتبدل مواقفهم و آراؤهم على حسب الظروف و المواءمات السياسية و لعبة توزيع السلطة، و يكتنف هذا أيضاً خوف دفين من تاريخ قديم يحكم العلاقات بين القوى العسكرية المهيمنة –بلا شرعية- و بين القوى المحافظة التي انتزعت شرعية ليست لها و التي سيظلون يسوقون لها طول الوقت أنهم حازوا ثقة الشعب و أنهم أتوا بانتخابات نزيهة، و هذا عكس الواقع تماماً، فلا هم أتوا بانتخابات نزيهة و لا هم حازوا بالفعل على ثقة الشارع، و هناك مثال صارخ يجعلنا نشك في أنهم حازوا ثقة الشارع بالفعل، فعندما كان الثوار يقتلون و يصابون و تفقأ أعينهم في شارع محمد محمود بعد الهجوم الغادر من قبل الأمن و قوات الشرطة العسكرية لم يحركوا ساكنا، و عندما سحلوا النساء و عروهم بعدها بشهر عندما تهجموا على المعتصمين الرافضين لحكومة ربيب المخلوع الفاسد، حتى في هذه المرة لم يحركوا ساكنا مع أن هذا يتعارض مع طبيعتهم المحافظة و تشدقهم بالدين ليل نهار.
و حجتهم في أن الصناديق قد أتت بهم فهذا بهتان عظيم، فالناخبون الذين ذهبوا للتصويت كانوا واحد من ثلاثة
الأول: ذهب اتقاء الغرامة المجحفة التي فرضها العسكر لكي يخرج الناس للتصويت فيجدون في انتظارهم من يشير عليهم بالتصويت لفلان أو آخر بدعوى أنه سيصلح الدنيا بالدين، و تفننوا في سبيل الوصول لهذا بكل الطرق الشرعية و الغير شرعية
الثاني: ذهب و لا يعلم من سيختار و هم قسم كبير من الشعب الغير متعلم و الغير مثقف سياسيا و الذي ينصاع مرغما وراء من سيعطيه مبلغا من المال أو يقضي له حاجة، خاصة و أن العسكر قد مهدوا الطريق -بانفلات أمني متعمد بتسترهم على الفاسدين في جهاز الشرطة- مهدوا للاستغلال من قبل فئة ضالة من التجار لرفع الأسعار بلا حسيب و لا رقيب، فهل ننتظر من هذا الناخب إلا أنه سيصوت لمن يدفع له أو يعطيه بعض المؤونة التي تعينه على الحياة لبعض الوقت.
الثالث: هو الناخب المثقف الواعي الذي يعرف  جيدا من سيعطيه صوته و هؤلاء في الغالب يعطون أصواتهم للقوى الثورية و التي تتحدث برامجها عن الحريات و المواطنة و هذه الأصوات ذهبت إلى غير المحافظين من المرشحين للبرلمان.
و لهذا فإن الشرعية التي اكتسبوها يشوبها تزييف الوعي و شراء الولاءات و التلويح بمخدر الدين، و الشعب المصري عندما خرج لم تكن عنده خطة لوصول هذه القوى من عدمه، و لكن للخلاص من قبضة العسكر اللا شرعيون في أقرب وقت ممكن، و تم استغلال هذا الشوق بحرفة و خسة و انتهازية ليست بجديدة على من يصيحون الآن في كل المنابر.
و بعد وصول من أرادوا لهم الوصول و استتب لهم أمرهم، بدأت القوى العسكرية في تنفيذ الشق الثاني في خطة إفشال الثورة إلى الأبد، و إخراج المخلوع من حبسه بل و تكريمه.
دعونا نتأمل قليلا ما يحدث الآن بعد أن فقد العسكر سلطة التشريع
فأول الأمر مرروا تشريعان جديدان قبل انعقاد البرلمان بأيام معدودة و من أجل أن يستر أحد التشريعان الآخر، كان أحدهما يخص الأزهر لكي يتم فتح مجال للمناقشة بعد التأكد من أن هناك بنود يقصدونها لتصنع هذا الجدل لكي ينشغل الأزهر و يطالب البرلمان إصلاح هذا التشريع، و الآخر هو تشريع انتخابات الرئيس و الذي دسوا فيه سما قاتلا توطئة لتمرير مرشح رئاسي من دماهم التي يجهزونها الآن لتصدر المشهد، و بالطبع سيرضخ البرلمان لمراجعة القانونين و يطول الوقت في مناقشات و مداولات، ثم يأتي العسكر و يضعون موعدا لفتح باب الترشح للرئاسة حتى يعجلوا يتمرير قانون الانتخابات الرئاسية –بدعوى ضغط الشارع- أو لثقتهم في أن البرلمان لن يغضبهم و سيمرره رغما عن الكل و يتم وضع دمية جديدة على رأس الدولة ليكون منزوع الصلاحيات و يحركه العسكر من وراء ستار، ما أفسد عليهم هذا و مازال يفعل هي القوى الثورية الني فاجأتهم جميعا بأنهم مكشوفون تماما، و ظني أنهم لن يستطيعون لا هم و لا حلفائهم من تمرير شيء لا يقبله الشارع، خاصة بأن العداوة باتت واضحة و العدو أصبح مبين لكل من يعشق هذا الوطن من الأحرار.
و لكن كيف سينجو المخلوع من حبسه و ربما شنقه و يتم تكريمه أيضا
دعونا نتأمل قليلا في المحاكمات الهزلية التي تتم الآن، فقسم منها لم يستطيعون إثبات التهم على القتلة و هذا بسببين الأول: إخفاء الأدلة، الثاني: شهود الزور، و بالطبع الفاسدون من جهاز الأمن هم أقدر الناس على صنع هذا خاصة و أنهم مطلقي السراح برضا أسيادهم في السجن و خارجه و الذين لا يزالون يحكمون حتى الآن.
ثم دفاع المخلوع و ما قاله محاميه و محاميو باقي المتهمون، و الإلحاح على وجود طرف آخر في المعادلة هو من صنع كل هذا و حتى يكمل هذه القصة داهم العسكر تحت ظل قانونهم الفاسد مقار الجمعيات الأهلية بدعوى أنهم يحركون القلاقل و الشغب، و ليصلوا في آخر الأمر أن ما حدث في مصر لم يكن ثورة بل مؤامرة كبرى دبرها أعداء الوطن و أن الكل مدان و عليه فإنه لا يوجد معنى لمحاكمة من تصدى لهذه المؤامرة بل يجب علينا تكريمه لتفانيه في عمله و وأد الفتنة بقتل مثيريها أمام الأقسام و في الشوارع و الميادين.
و إلا فسر لي القبض العشوائي على الثوار و المحاكمات العسكرية لأكثر من إثني عشرة ألف ثائرا، أليس هذا لترسيخ هذه الفكرة، و زد على هذا الطنطنة اليومية و بشكل ملح على أن هؤلاء ليسوا الثوار بل هم (بلطجية مأجورين)، حتى استطاعوا إلى حد كبير في تأليب الشارع على الثورة و الثوار حتى تخلو لهم الساحة مرة أخرى و يعيدون النظام الذي يحافظ على مصالحهم المالية و السلطوية و لكي يستطيعون الوفاء بالوعد الذي قطعوه لكبيرهم بأنه لن يمسه السوء.
أجزم أنهم في سبيلهم لتحقيق هذا لا يعيرون للأصوات التي تعلو كل يوم برحيلهم أي انتباه، و أجزم أنهم في هذا الوقت لا يعيرون بالاً أن الله فوقهم و يعلم ما يدبرون و سوف يفضحهم هم و حلفاؤهم في عقر دارهم، و نحن ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.

بقلم: أ. أحمد نجم الدين

1 تعليقات

  1. بصراحة الوضع في مصر مخيف مقال ممممتع

    ردحذف
أحدث أقدم